مناهج المفسرين ج(1)
تأليف
بتوفيق من الله تعالى نقدم للدارسين والدراسات في معاهد الدراسات الإسلامية فصول من " كتاب التفسير والمفسرون " وهو يعرض بكل أمانة ما في القرآن الكريم من وجوه الإعجاز.
ويبين ما تضمنه من أحكام لابد للمسلمين من معرفتها والوقوف عند حدودها ليسعدوا إذا هم نهلوا من فيض القرآن وعملوا به واهتدوا بهديه ، وإذا هو أرادوا لأنفسهم عز الدنيا وسعادة الآخرة وجاءت فصول هذا الكتاب تبين مراحل التفسير رواية وتدويناً وتنصف في الوقت نفسه رجال التفسير لقاء ما قدموه من عطاء موصول وفكر مستنير كشفوا به كثرة الوضع في التفسير ومراحل دخول الإسرائيليات فيه ليكون المسلمون على بينة تكشف الشبه المثارة ضد هذا التراث العظيم إلى غير ذلك من جهود مباركة من أجل حماية القرآن وصيانته من الدس والتشكيك وسموم التأويل المنحرف ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
مدير إدارة الدراسات الإسلامية
* معنى التفسير والتأويل والفرق بينهما :
التفسير في اللغة : التفسير هو الإيضاح والتبيين ، ومنه قوله تعالى في سورة الفرقان آية (33) :
" وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ".. أي بياناً وتفصيلاً ، وهو مأخوذ من الفسر وهو الإبانة والكشف ، قال في القاموس :" الفسر" الإبانة وكشف المغطى كالتفسير ، والفعل كضرب ونصر ... ا هـ(1).
وقال في لسان العرب : " الفسر " البيان ، فسر الشيء يفسره بالكسر ويفسره بالضم فسراً. وفسره أبانه. والتفسير مثله.. ثم قال : الفسر كشف المغطى ، والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل.. اهـ (2).
وقال أبو حيان في البحر المحيط : " .. ويطلق التفسير أيضاً على التعرية للانطلاق ، قال ثعلب : تقول فسرت الفرس : عريته لينطلق في حصره ، وهو راجع لمعنى الكشف ، فكأنه كشف ظهره لهذا الذي يريده منه من الجري " ا هـ(3).
ومن هذا يتبين لنا أن التفسير يستعمل لغة في الكشف الحسي ، وفي الكشف عن المعاني المعقولة ، واستعماله في الثاني أكثر من استعماله في الأول.
***
التفسير في الاصطلاح : يرى بعض العلماء : أن التفسير ليس من العلوم التي يتكلف لها حد؛ لأنه ليس قواعد أو ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم التي أمكن لها أن تشبه العلوم العقلية، ويكتفي في إيضاح التفسير بأنه بيان كلام الله ، أو أنه المبين لألفاظ القرآن ومفهومها.
ويرى بعض آخر منهم : أن التفسير من قبيل المسائل الجزئية أو القواعد الكلية، أو الملكات الناشئة من مزاولة القواعد؛ فيتكلف له التعريف، فيذكر في ذلك علوماً أخرى يحتاج إليها في فهم القرآن، كاللغة، والصرف، والنحو، والقراءات.. وغير ذلك.
وإذا نحن تتبعنا أقوال العلماء الذين تكلفوا الحد للتفسير، وجدناهم قد عرفوه بتعاريف كثيرة، يمكن إرجاعها كلها إلى واحد منها، فهي وإن كانت مختلفة من جهة اللفظ، إلا أنها متحدة من جهة المعنى وما تهدف إليه.
فقد عرَّفه أبو حيان في البحر المحيط: بأنه " علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب؛ وتتمات لذلك".
ثم خرَّج التعريف فقال : فقولنا علم، هو جنس يشمل سائر العلوم، وقولنا يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، هذا هو علم القراءات، وقولنا ومدلولاتها أي مدلولات تلك الألفاظ، وهذا هو علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم، وقولنا وأحكامها الإفرادية والتركيبية، هذا يشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع، وقولنا ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، يشمل ما دلالته عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز؛ فإن التركيب قد يقتضي بظاهره شيئاً ويصد عن الحمل على الظاهر صاد فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على الظاهر وهو المجاز، وقولنا وتتمات لذلك، هو معرفة النسخ وسبب النزول، وقصة توضح بعض ما أنبهم في القرآن، ونحو ذلك "ا هـ(1).
وعرَّفه الزركشي : بأنه " علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد r ، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه" اهـ (2).
وعرَّفه بعضهم : بأنه " علم يبحث فيه عن أحوال القرآن المجيد، من حيث دلالته على مراد الله تعالى، بقدر الطاقة البشرية" ا هـ(3).
والناظر لأول وهلة في هذين التعريفين الأخيرين، يظن أن علم القراءات وعلم الرسم لا يدخلان في علم التفسير، والحق أنهما داخلان فيه ؛ وذلك لأن المعنى يختلف باختلاف القراءتين أو القراءات، كقراءة " وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ".. بضم الميم وإسكان اللام، فإن معناها مغاير لقراءة من قرأ "وملكاً كبيراً " بفتح الميم وكسر اللام. وكقراءة " حتى يطهرن ".. بالتسكين فإن معناها مغاير لقراءة من قرأ " يطهرن" بالتشديد، كما أن المعنى يختلف أيضاً باختلاف الرسم القرآني في المصحف، فمثلاً قوله تعالى : " أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً ".. بوصل " أمن " ، يغاير في المعنى " أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً" .. بفصلها، فإن المفصولة تفيد معنى " بل" دون الموصولة.
وعرَّفه بعضهم : بأنه " علم نزول الآيات، وشئونها ، وأقاصيصها ، والأسباب النازلة فيها ، ثم ترتيب مكيها ومدنيها ، ومحكمها ومتشابهها ، وناسخها ومنسوخها ، وخاصها وعامها ، ومطلقها ومقيدها ، ومجملها ، ومفسرها ، وحلالها وحرامها ، ووعدها ووعيدها ، وأمرها ونهيها ، وعبرها وأمثالها " اهـ(4).
وهذه التعاريف الأربعة تتفق كلها على أن علم التفسير علم يبحث عن مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية ، فهو شامل لكل ما يتوقف عليه فهم المعنى ، وبيان المراد.
***
والتأويل في اللغة : التأويل : مأخوذ من الأول وهو الرجوع ، قال في القاموس : " آل إليه أولا ومآلا : رجع ، وعنه ارتد ... ثم قال : وأول الكلام تأويلا وتأوله : دبره وقدره وفسره ، والتأويل عبارة الرؤيا "(1).
وقال في لسان العرب : الأول : الرجوع ، آل الشيء يؤول أولا ومآلا رجع ، وأول الشيء رجعه ، وألت عن الشيء ارتددت ، وفي الحديث : " من صام الدهر فلا صام ولا آل" أي ولا رجع إلى خير ... ثم قال : وأول الكلام وتأوله دبره وقدره. وأوله وتأوله فسره ... الخ "(2).
وعلى هذا فيكون التأويل مأخوذا من الأول بمعنى الرجوع ، إنما هو باعتبار أحد معانيه اللغوية ، فكأن المؤول ارجع الكلام إلى ما يحتمله من المعاني.
وقيل : التأويل مأخوذ من الإيالة وهي السياسة ، فكأن المؤول يسوس الكلام ويضعه في موضعه – قال الزمخشري في أساس البلاغة : " آل الرعية يؤولها إيالة حسنة ، وهو حسن الإيالة ، وائتالها ، وهو مؤتال لقومه مقتال عليهم أي سائس محتكم ... " ا هـ (3).
والناظر في القرآن الكريم يجد أن لفظ التأويل قد ورد في كثير من آياته على معان مختلفة ، فمن ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران آية (7) " فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ".. فهو في هذه الآية بمعنى التفسير والتعيين- وقوله في سورة النساء آية (59) " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ".. فهو في هذه الآية بمعنى العاقبة والمصير – وقوله في سورة الأعراف آية (53) " هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ " .. وقوله في سورة يونس آية (39)
" بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ " .. فهو في الآيتين بمعنى وقوع المخبر به - - وقوله في سورة يوسف آية (6) " وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ".. وقوله فيها أيضاً آية (37) " قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ".. وقوله في آية (44) منها " وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ".. ، وقوله في آية (45) منها " أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ ".. ،وقوله في آية (100) منها " هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ".. فالمراد به في كل هذه الآيات نفس مدلول الرؤيا ، وقوله في سورة الكهف آية (78) " سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً " .. ، وقوله أيضاً آية (82) "ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ".. فمراده بالتأويل هنا تأويل الأعمال التي أتى بها الخضر من خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإقامة الجدار ، وبيان السبب الحامل عليها ، وليس المراد منه تأويل الأقوال.
***
1- التأويل عند السلف : التأويل عند السلف له معنيان :
أحدهما : تفسير الكلام وبيان معناه، سواء أوافق ظاهره أو خالقه ، فيكون التأويل والتفسير على هذا مترادفين ، وهذا هو ما عناه مجاهد من قوله " إن العلماء يعلمون تأويله" يعنى القرآن، وما يعنيه ابن جرير الطبري بقوله في تفسيره :" القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا " ، وبقوله : "اختلف أهل التأويل في هذه الآية" ونحو ذلك، فإن مراده التفسير.
ثانيهما : هو نفس المراد بالكلام ؛ فإن الكلام طلباً كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبراً ، كان تأويله نفس الشيء المخبر به، وبين هذا المعنى والذي قبله فرق ظاهر، فالذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام، كالتفسير ، والشرح ، والإيضاح ، ويكون وجود التأويل في القلب، واللسان، وله الوجود الذهني واللفظي والرسمي ،وأما هذا فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء أكانت ماضية أم مستقبلة، فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا هو نفس طلوعها ، وهذا في نظر ابن تيمية هو لغة القرآن التي نزل بها ، وعلى هذا فيمكن إرجاع كل ما جاء في القرآن من لفظ التأويل إلى هذا المعنى الثاني.
2- التأويل عند المتأخرين من المتفقهة، والمتكلمة،و المحدثة، والمتصوفة :
التأويل عند هؤلاء جميعاً : هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف. فإذا قال أحد منهم : هذا الحديث أو هذا النص مؤول أو هو محمول على كذا. قال الآخر : هذا نوع تأويل ، والتأويل يحتاج إلى دليل. وعلى هذا فالمتأول مطالباً بأمرين:
الأمر الأول : أن يبين احتمال اللفظ للمعنى الذي حمله عليه وادعى أنه المراد.
الأمر الثاني : أن يبين الدليل الذي أوجب صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح ، وإلا كان تأويلاً فاسداً ، أو تلاعباً بالنصوص.
قال في جمع الجوامع وشرحه : "التأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حمل عليه لدليل فصحيح، أو لما يظن دليلاً في الواقع ففاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل "(1).
وهذا أيضاً هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات ، فمنهم من ذم التأويل ومنعه ، ومنهم من مدحه وأوجبه(2).
وستطلع عند الكلام على الفرق بين التفسير والتأويل على معان أخرى اشتهرت على ألسنة المتأخرين.
***
الفرق بين التفسير والتأويل والنسبة بينهما :
اختلف العلماء في بيان الفرق بين التفسير والتأويل ، وفي تحديد النسبة بينهما اختلافاً نتجت عنه أقوال كثيرة، وكأن التفرقة بين التفسير والتأويل أمر معضل استعصى حله على كثير من الناس إلا من سعى بين يديه شعاع من نور الهداية والتوفيق، ولهذا بالغ ابن حبيب النيسابوري فقال :" نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه "(3) . وليس بعيداً أن يكون منشأ هذا الخلاف ، هو ما ذهب إليه الأستاذ أمين الخولي حيث يقول " وأحسب أن منشأ هذا كله ، هو استعمال القرآن لكلمة التأويل ، ثم ذهاب الأصوليين إلى اصطلاح خاص فيها ، مع شيوع الكلمة على ألسنة المتكلمين من أصحاب المقالات والمذاهب "(4).
وهذه هي أقوال العلماء أبسطها بين يدي القارئ ليقف على مبلغ هذا الاختلاف، وليخلص هو برأي في المسألة يوافق ذوقه العلمي ويرضيه.
1-قال أبو عبيدة وطائفة معه :" التفسير والتأويل بمعنى واحد "(5) فهما مترادفان. وهذا هو الشائع عند المتقدمين من علماء التفسير.
2-قال الراغب الأصفهاني :" التفسير أعم من التأويل. وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ . والتأويل في المعاني ، كتأويل الرؤيا، والتأويل يستعمل أكثره في الكتب الإلهية. والتفسير يستعمل فيها وفي غيرها. والتفسير أكثره يستعمل في مفردات الألفاظ. والتأويل أكثره يستعمل في الجمل، فالتفسير إما أن يستعمل في غريب الألفاظ كالبحيرة والسائبة والوصيلة أو في تبيين المراد وشرحه كقوله تعالى في الآية (43) من سورة البقرة : " وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ "..، وإما في كلام مضمن بقصة لا يمكن تصوره إلا بمعرفتها نحو قوله تعالى في الآية (37) من سورة التوبة:" إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ".. وقوله تعالى في الآية (189) من سورة البقرة:
"وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ".. الآية.
وأما التأويل : فإنه يستعمل مرة عاماً ، ومرة خاصاً ، نحو الكفر المستعمل تارة في الجحود المطلق، وتارة في جحود الباري خاصة. والإيمان المستعمل في التصديق المطلق تارة، وفي تصديق دين الحق تارة ، وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفة ، نحو لفظ " وجد " المستعمل في الجد والوجد والوجود " ا هـ(1).
3-قال الماتوريدي : " التفسير : القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على الله أنه عني باللفظ هذا ، فإن قام دليل مقطوع به فصحيح، وإلا فتفسير بالرأي، وهو المنهي عنه، والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله " ا هـ (2) وعلى هذا فالنسبة بينهما التباين.
4-قال أبو طالب الثعلبي : " التفسير بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازاً ، كتفسير الصراط بالطريق، والصيب بالمطر. والتأويل تفسير باطن اللفظ، مأخوذ من الأول، وهو الرجوع لعاقبة الأمر. فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير إخبار عن دليل المراد، لأن اللفظ يكشف عن المراد، والكاشف دليل ،مثاله قوله تعالى في الآية (14) من سورة الفجر:" إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ".. تفسيره أنه من الرصد ، يقال رصدته : رقبته ، والمرصاد مفعال منه ، وتأويله التحذير من التهاون بأمر الله، والغفلة عن الأهبة والاستعداد للعرض عليه. وقواطع الأدلة تقتضي بيان المراد منه على خلاف وضع اللفظ في اللغة " ا هـ (3)وعلى هذا فالنسبة بينهما التباين.
5- قال البغوي ووافقه الكواشي :" التأويل هو صرف الآية إلى معنى محتمل يوافق ما قبلها وما بعدها، غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط. والتفسير هو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها" ا هـ (4) بتصرف. وعلى هذا فالنسبة بينهما التباين.
6- قال بعضهم:" التفسير ما يتعلق بالرواية ، والتأويل ما يتعلق بالدراية " ا هـ (1)؛ وعلى هذا فالنسبة بينهما التباين.
7- التفسير هو بيان المعاني التي تستفاد من وضع العبارة ، والتأويل هو بيان المعاني التي تستفاد بطريق الإشارة. فالنسبة بينهما التباين ، وهذا هو المشهور عند المتأخرين ، وقد نبه إلى هذا الرأي الأخير العلامة الألوسي في مقدمة تفسيره حيث قال بعد أن استعرض بعض أقوال العلماء في هذا الموضوع " وعندي أنه إن كان المراد الفرق بينهما بحسب العرف فكل الأقوال فيه - ما سمعتها وما لم تسمعها -مخالف للعرف اليوم إذ قد تعورف من غير نكير : أن التأويل إشارة قدسية، ومعارف سبحانية، تنكشف من سجف العبارات للسالكين، وتنهل من سحب الغيب على قلوب العارفين. والتفسير غير ذلك.
وإن كان المراد الفرق بينهما بحسب ما يدل عليه اللفظ مطابقة، فلا أظنك في مرية من رد هذه الأقوال. أو بوجه ما ، فلا أراك ترضي إلا أن في كل كشف إرجاعاً ، وفي كل إرجاع كشفاً، فافهم" ا هـ (2).
هذه هي أهم الأقوال في الفرق بين التفسير والتأويل. وهناك أقوال أخرى أعرضنا عنها مخافة التطويل.
والذي تميل إليه النفس من هذه الأقوال : هو أن التفسير ما كان راجعاً إلى الرواية ،والتأويل ما كان راجعاً إلى الدراية؛ وذلك لأن التفسير معناه الكشف والبيان. والكشف عن مراد الله تعالى لا نجزم به إلا إذا ورد عن رسول الله r ، أو عن بعض أصحابه الذين شهدوا نزول الوحي وعلموا ما أحاط به من حوادث ووقائع، وخالطوا رسول الله r ، ورجعوا إليه فيما أشكل عليهم من معاني القرآن الكريم.
وأما التأويل فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللفظ بالدليل والترجيح يعتمد على الاجتهاد ، ويتوصل إليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها في لغة العرب ، واستعمالها بحسب السياق، ومعرفة الأساليب العربية، واستنباط المعاني من كل ذلك ، قال الزركشي : " وكان السبب في اصطلاح كثير على التفرقة بين التفسير والتأويل التمييز بين المنقول والمستنبط ؛ ليحيل على الاعتماد في المنقول ، وعلى النظر في المستنبط " ا هـ (3).
***
تفسير القرآن بغير لغته ، أو الترجمة التفسيرية للقرآن ، بحث نرى من الواجب علينا أن نعرض له ؛ لما له من تعلق وثيق بموضوع هذا الكتاب ، وقبل الخوض فيه يحسن بنا أن نمهد له بعجالة موجزة تكشف عن معنى الترجمة وأقسامها، ثم تتكلم عما يدخل منها تحت التفسير وما لا يدخل ، فنقول : الترجمة تطلق في اللغة على معنيين.
الأول : نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى بدون بيان لمعنى الأصل المترجم، وذلك كوضع رديف مكان رديف من لغة واحدة.
الثاني : تفسير الكلام وبيان معناه بلغة أخرى.
قال في تاج العروس " والترجمان لمفسر للسان ، وقد ترجمه وترجم عنه إذا فسر كلامه بلسان آخر. قال الجوهري : وقيل نقله من لغة إلى لغة أخرى " ا هـ(1).
وعلى هذا فالترجمة تنقسم إلى قسمين . ترجمة حرفية ، وترجمة معنوية أو تفسيرية.
أما الترجمة الحرفية : فهي نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى ، مع مراعاة الموافقة في النظم والترتيب ، والمحافظة على جميع معاني الأصل المترجم.
وأما الترجمة التفسيرية : فهي شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى، بدون مراعاة لنظم الأصل وترتيبه ، وبدون المحافظة على جميع معانيه المرادة منه.
وليس من غرضنا في هذا البحث أن نعرض لما يجوز من نوعي الترجمة بالنسبة للقرآن وما لا يجوز، ولا لمقالات العلماء المتقدمين والمتأخرين، ولكن غرضنا الذي نريد أن نكشف عنه ونوضحه هو : أي نوعي الترجمة داخل تحت التفسير ؟ أهو الترجمة الحرفية ؟ أم الترجمة التفسيرية ؟ أم هما معاً ؟ فنقول :
· الترجمة الحرفية للقرآن :
الترجمة الحرفية للقرآن : إما أن تكون ترجمة بالمثل ، وإما أن تكون ترجمة بغير المثل ، أما الترجمة الحرفية بالمثل ، فمعناها أن يترجم نظم القرآن بلغة أخرى تحاكيه حذواً بحذو بحيث تحل مفردات الترجمة محل مفرداته ، وأسلوبها محل أسلوبه، حتى تتحمل الترجمة ما تحمله نظم الأصل من المعاني المقيدة بكيفياتها البلاغية وأحكامها التشريعية، وهذا أمر غير ممكن بالنسبة لكتاب الله العزيز ؛ وذلك لأن القرآن نزل لغرضين أساسيين :
أولهما : كونه آية دالة على صدق النبي r فيما يبلغه عن ربه ، وذلك بكونه معجزاً للبشر ، لا يقدرون على الإتيان مثله ولو اجتمع الإنس والجن على ذلك.
وثانيهما : هداية الناس لما فيه صلاحهم في دنياهم وأخراهم.
أما الغرض الأول ، وهو كونه آية على صدق النبي r فلا يمكن تأديته بالترجمة اتفاقاً ؛ فإن القرآن ـ وإن كان الإعجاز في جملته لعدة معان كالإخبار بالغيب ، واستيفاء تشريع لا يعتريه خلل ، وغير ذلك مما عد من وجوه إعجازه ـ إنما يدور الإعجاز الساري في كل آية منه على ما فيه من خواص بلاغية جاءت لمقتضيات معينة ، وهذه لا يمكن نقلها إلى اللغات الأخرى اتفاقاً ، فإن اللغات الراقية وإن كان لها بلاغة ، ولكن لكل لغة خواصها لا يشاركها فيها غيرها من اللغات ، وإذاً فلو ترجم القرآن ترجمة حرفية ـ وهذا محال ـ لضاعت خواص القرآن البلاغية ، ولنزل من مرتبته المعجزة ، إلى مرتبة تدخل تحت طوق البشر ، ولفات هذا المقصد العظيم الذي نزل القرآن من أجله على محمد r .
وأما الغرض الثاني ، وهو كونه هداية للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدارين فذلك باستنباط الأحكام والإرشادات منه ، وهذا يرجع بعضه إلى المعاني الأصلية التي تشترك في تفاهمها وأدائها كل الناس، وتقوى عليها جميع اللغات، وهذا النوع من المعاني يمكن ترجمته واستفادة الأحكام منه ، وبعض آخر من الأحكام والإرشادات يستفاد من المعاني من المعاني الثانوية، ونجد هذا كثيراً في استنباطات الأئمة المجتهدين؛ وهذه المعاني الثانوية، لازمة للقرآن الكريم وبدونها لا يكون قرآناً. والترجمة الحرفية إن أمكن فيها المحافظة على المعاني الأولية ، فغير ممكن أن يحافظ فيها على المعاني الثانوية؛ ضرورة أنها لازمة للقرآن دون غيره من سائر اللغات.
ومما تقدم يعلم : أن الترجمة الحرفية للقرآن ، لا يمكن أن تقوم مقام الأصل في تحصيل كل ما يقصد منه ؛ لما يترتب عليها من ضياع الغرض الأول برمته ، وفوات شطر من الغرض الثاني.
وأما الترجمة الحرفية بغير المثل : فمعناها أن يترجم نظم القرآن حذواً بحذو بقدر طاقة المترجم وما تسعه لغته ، وهذا أمر ممكن ، وهو وإن جاز في كلام البشر ، لا يجوز بالنسبة لكتاب الله العزيز ؛ لأن فيه من فاعله إهداراً لنظم القرآن ؛ وإخلالاً بمعناه ؛ وانتهاكاً لحرمته ، فضلاً عن كونه فعلاً لا تدعو إليه ضرورة.
***
· الترجمة الحرفية ليست تفسيراً للقرآن :
اتضح لنا مما سبق معنى الترجمة الحرفية بقسميها ، وأقمنا الدليل بما يناسب المقام على عدم إمكان الترجمة الحرفية بالمثل، وعدم جواز الترجمة الحرفية بغير المثل، وإن كانت ممكنة ، ولكن بقى بعد ذلك هذا السؤال : هل الترجمة الحرفية بقسميها ـ على فرض إمكانها في الأول وجوازها في الثاني ـ تسمى تفسيراً للقرآن بغير لغته ؟ أو لا تدخل تحت مادة التفسير ؟ وللجواب عن هذا نقول :
إن الترجمة الحرفية بالمثل ، تقدم لنا أن معناها ترجمة نظم الأصل بلغة أخرى تحاكيه حذواً بحذو، بحيث تحل مفردات الترجمة محل مفردات الأصل وأسلوبها محل أسلوبه ، حتى تتحمل الترجمة ما تحمله نظم الأصل من المعاني البلاغية ، والأحكام التشريعية. وتقدم لنا أيضاً أن هذه الترجمة بالنسبة للقرآن غير ممكنة ؛ وعلى فرض إمكانها فهي ليست من قبيل تفسير القرآن بغير لغته ؛ لأنها عبارة عن هيكل القرآن بذاته ، إلا أن الصورة اختلفت باختلاف اللغتين : المترجم منها والمترجم إليها . وعلى هذا فأبناء اللغة المترجم إليها يحتاجون إلى تفسيره وبيان ما فيه من أسرار وأحكام، كما يحتاج العربي الذي نزل بلغته إلى تفسيره والكشف عن أسراره وأحكامه ؛ ضرورة أن هذه الترجمة لا شرح فيها ولا بيان ، وإنما فيها إبدال لفظ بلفظ آخر يقوم مقامه ، ونقل معنى الأصل كما هو من لغة إلى لغة أخرى.
وأما الترجمة الحرفية بغير المثل، فقد تقدم لنا أن معناها ترجمة نظم القرآن حذواً بحذو، بقدر طاقة المترجم وما تسعه لغته وتقدم لنا أن هذا غير جائز بالنسبة للقرآن وعلى فرض جوازها فهي ليست من قبيل تفسير القرآن بغير لغته، لأنها عبارة عن هيكل للقرآن منقوص غير تام، وهذه الترجمة لم يترتب عليها سوى إبدال لفظ بلفظ آخر يقوم مقامه في تأدية بعض معناه، وليس في ذلك شيء من الكشف والبيان، لا شرح مدلول، ولا بيان مجمل، ولا تقييد مطلق ولا استنباط أحكام، ولا توجيه معان، ولا غير ذلك من الأمور التي اشتمل عليها التفسير المتعارف.
***
· الترجمة التفسيرية للقرآن :
الترجمة التفسيرية أو المعنوية، تقدم لنا أنها عبارة عن شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى، بدون محافظة على نظم الأصل وترتيبه، وبدون المحافظة على جميع معانيه المرادة منه، وذلك بأن تفهم المعنى الذي يراد من الأصل، ثم نأتي له بتركيب من اللغة المترجم إليها يؤديه على وفق الغرض الذي سيق له.
وعلم مما تقدم مقدار الفرق بين الترجمة الحرفية والترجمة التفسيرية ولإيضاح هذا الفرق نقول :
لو أراد إنسان أن يترجم قوله تعالى : " وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ"(1).. ترجمة حرفية لأتى بكلام يدل على النهي عن ربط اليد في العنق ، وعن مدها غاية المد ، ومثل هذا التعبير في اللغة المترجم إليها ربما كان لا يؤدي المعنى الذي قصده القرآن، بل قد يستنكر صاحب تلك اللغة هذا الوضع الذي ينهى عنه القرآن، ويقول في نفسه : إنه لا يوجد عاقل يفعل بنفسه هذا الفعل الذي نهى عنه القرآن ؛ لأنه مثير للضحك على فاعله والسخرية منه ، ولا يدور بخلد صاحب هذه اللغة ، المعنى الذي أراده القرآن وقصده من وراء هذا التشبيه البليغ.
أما إذا أراد أن يترجم هذه الجملة ترجمة تفسيرية، فإنه يأتي بالنهي عن التبذير والتقتير، مصورين بصورة شنيعة ، ينفر منها الإنسان، حسبما يناسب أسلوب تلك اللغة المترجم إليها ، ويناسب إلف من يتكلم بها. ومن هذا يتبين أن الغرض الذي أراده الله من هذه الآية، يكون مفهوماً بكل سهولة ووضوح في الترجمة التفسيرية، دون الترجمة الحرفية.
إذا علم هذا ، أصبح من السهل علينا وعلى كل إنسان أن يقول بجواز ترجمة القرآن ترجمة تفسيرية بدون أن يتردد أدنى تردد، فإن ترجمة القرآن ترجمة تفسيرية ليست سوى تفسير للقرآن الكريم بلغة غير لغته التي نزل بها.
وحيث اتفقت كلمة المسلمين، وانعقد إجماعهم على جواز تفسير القرآن لمن كان من أهل التفسير بما يدخل تحت طاقته البشرية؛ بدون إحاطة بجميع مراد الله ؛ فإنا لا نشك في أن الترجمة التفسيرية للقرآن داخله تحت هذا الإجماع أيضاً؛لأن عبارة الترجمة التفسيرية محاذية لعبارة التفسير ، لا لعبارة الأصل القرآني ؛ فإذا كان التفسير مشتملاً على بيان معنى الأصل وشرحه، بحل ألفاظه فيما يحتاج تفهمه إلى الحل؛ وبيان مراده كذلك ، وتفصل معناه فيما يحتاج للتفصيل، وتوجيه مسائله فيما يحتاج للتوجيه، وتقرير دلائله فيما يحتاج للتقرير، ونحو ذلك من كل ما له تعلق بتفهم القرآن وتدبره ؛ كانت الترجمة التفسيرية أيضاً مشتملة على هذا كله ؛ لأنها ترجمة للتفسير لا للقرآن.
وقصارى القول : إن في كل من التفسير وترجمته بيان ناحية أو أكثر من نواحي القرآن التي لا يحيط بها إلا من أنزله بلسان عربي مبين؛ وليس في واحد منهما إبدال لفظ مكان لفظ القرآن، ولا إحلال نظم محل نظم القرآن بل نظم القرآن باق معهما ؛ دال على معانيه من جميع نواحيه.
***
* الفرق بين التفسير والترجمة التفسيرية :
لو تأملنا أدنى تأمل؛ لوجدنا أنه يمكن أن يفرق بين التفسير والترجمة التفسيرية من جهتين.
الجهة الأولى : اختلاف اللغتين. فلغة التفسير تكون بلغة الأصل ، كما هو المتعارف المشهور. بخلاف الترجمة التفسيرية فإنها تكون بلغة أخرى.
الجهة الثانية : يمكن لقارئ التفسير ومتفهمه أن يلاحظ معه نظم الأصل ودلالته فإن وجده خطأ نبه عليه وأصلحه. ولو فرض أنه لم يتنبه لما في التفسير من خطأ تنبه له قارئ آخر، أما قارئ الترجمة فإنه لا يتسنى له ذلك؛ لجهله بنظم القرآن ودلالته ، بل كل ما يفهمه ويعتقده؛ أن هذه الترجمة التي يقرؤها ويتفهم معناها تفسير صحيح للقرآن، وأما رجوعه إلى الأصل ومقارنته بالترجمة فليس مما يدخل تحت طوقه ما دام لم يعرف لغة القرآن.
***
· شروط الترجمة التفسيرية :
تفسير القرآن الكريم : من العلوم التي فرض على الأمة تعلمها، والترجمة التفسيرية : تفسير للقرآن بغير لغته، فكانت أيضاً من الأمور التي فرضت على الأمة، بل هي آكد لما يترتب عليها من المصالح المهمة ، كتبليغ معاني القرآن وإيصال هدايته إلى المسلمين، وغير المسلمين ممن لا يتكلمون بالعربية ولا يفهمون لغة العرب ، وأيضاً حماية العقيدة الإسلامية من كيد الملحدين، والدفاع عن القرآن بالكشف عن أضاليل المبشرين الذين عمدوا إلى ترجمة القرآن ترجمة حشوها بعقائد زائفة وتعاليم فاسدة؛ ليظهروا القرآن لمن لم يعرف لغته في صورة تنفر منه وتصد عنه ، وكثيراً ما علت الأصوات بالشكوى من هذه التراجم الفاسدة؛ لهذا نرى أن نذكر الشروط التي يجب أن تتوافر وتراعي، لتكون الترجمة التفسيرية ترجمة صحيحة مقبولة، وإليك هذه الشروط :
أولاً - أن تكون الترجمة على شريطة التفسير ، لا يعول عليها إلا إذا كانت مستمدة من الأحاديث النبوية ، وعلوم اللغة العربية ، والأصول المقررة في الشريعة الإسلامية ، فلابد للمترجم من اعتماده في استحضار معنى الأصل على تفسير عربي مستمد من ذلك؛ أما إذا استقل برأيه في استحضار معنى القرآن ، أو اعتمد على تفسير ليس مستمداً من تلك الأصول، فلا تجوز ترجمته ولا يعتد بها ، كما لا يعتد بالتفسير إذا لم يكن مستمداً من تلك المناهل ، معتمداً على هذه الأصول.
ثانياً - أن يكون المترجم بعيداً عن الميل إلى عقيدة زائفة تخالف ما جاء به القرآن ، وهذا شرط في المفسر أيضاً ؛ فإنه لو مال واحد منهما إلى عقيدة فاسدة لتسلطت على تفكيره ، فإذا بالمفسر وقد فسر طبقاً لهواه ، وإذا بالمترجم وقد ترجم وفقاً لميوله ، وكلاهما يبعد بذلك عن القرآن وهداه.
ثالثاً - أن يكون المترجم عالماً باللغتين : المترجم منها والمترجم إليها ، حبيراً بأسرارهما ، يعلم جهة الوضع والأسلوب والدلالة لكل منهما.
رابعاً : أن يكتب القرآن أولاً ، ثم يؤتى بعده بتفسيره ، ثم يتبع هذا بترجمته التفسيرية حتى لا يتوهم متوهم أن هذه الترجمة ترجمة حرفية للقرآن.
هذه هي الشروط التي يجب مراعاتها لمن يريد أن يفسر القرآن بغير لغته ، تفسيراً يسلم من كل نقد يوجه ، وعيب يلتمس(1).
***
هل تفسير القرآن من قبيل التصورات أو من قبيل التصديقات؟
اختلف العلماء في علم التفسير : هل هو من قبيل التصورات أو من قبيل التصديقات ؟ فذهب بعضهم إلى أنه من قبيل التصورات. لأن المقصود منه تصور معاني ألفاظ القرآن، وذلك كله تعاريف لفظية، وقد صرح بهذا عبدالحكيم علي المطول حيث قال :" وما قالوا من أن لكل علم مسائل فإنما هو في العلوم الحكمية ، وأما العلوم الشرعية والأدبية فلا يتأتى في جميعاً ذلك، فإن علم اللغة ليس إلا ذكر الألفاظ ومفهوماتها، وكذلك التفسير والحديث "ا هـ (2).
وذهب السيد : إلى أن التفسير من قبيل التصديقات، لأنه يتضمن الحكم على الألفاظ بأنها مفيدة لهذه المعاني ؛ وعلى هذا يكون التفسير عبارة عن مسائل جزئية، مثل قولنا : يا أيها الناس : خطاب لأهل مكة؛ ويا أيها الذين آمنوا : خطاب لأهل المدينة، والاسم، معناه : الدال على المسمى ، والله ، معناه : الذات الأقدس ، والرحمن ، معناه : المحسن ، وغير ذلك ، ولا شك أن هذه قضايا جزئية(3).
***
المرحلة الأول للتفسير
أو التفسير في عهد النبي r وأصحابه
· فهم النبي r والصحابة للقرآن
· قيمة التفسير المأثور عن الصحابة
· مميزات التفسير في هذه المرحلة
فهم النبي r والصحابة للقرآن
نزل القرآن الكريم على نبي أمي ، وقوم أميين، ليس لهم إلا ألسنتهم وقلوبهم ، وكانت لهم فنون من القول يذهبون فيها مذاهبهم ويتواردون عليها، وكانت هذه الفنون لا تكاد تتجاوز ضروباً من الوصف، وأنواعاً من الحكم ، وطائفة من الأخبار والأنساب ، وقليلاً مما يجري هذا المجرى، وكان كلامهم مشتملاً على الحقيقة والمجاز، والتصريح والكناية، والإيجاز والإطناب.
وجرياً على سنة الله تعالى في إرسال الرسل، نزل القرآن بلغة العرب وعلى أساليبهم في كلامهم : "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ "(1).. فألفاظ القرآن عربية، إلا ألفاظاً قليلة، اختلفت فيها أنظار العلماء، فمن قائل : إنها عربت وأخذت من لغات أخرى، ولكن العرب هضمتها وأجرت عليها قوانينها فصارت عربية بالاستعمال. ومن قائل إنها عربية بحتة، غاية الأمر أنها مما تواردت عليه اللغات، وعلى كلا القولين فهذه الألفاظ لا تخرج القرآن عن كونه عربياً.
استعمل القرآن في أسلوبه الحقيقة والمجاز والتصريح والكناية، والإيجاز والإطناب، على نمط العرب في كلامهم غير أن القرآن يعلو على غيره من الكلام العربي، بمعانيه الرائعة التي افتن بها في غير مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، تحقيقاً لإعجازه، ولكونه من لدن حكيم عليم.
***
*فهم النبي r والصحابة للقرآن :
وكان طبيعياً أن يفهم النبي r القرآن جملة وتفصيلاً، أن تكفل الله تعالى له بالحفظ والبيان: "إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ "(2)r القرآن في جملته ، أي بالنسبة لظاهره وأحكامه ، أما فهمه تفصيلا، ومعرفة دقائق باطنه ، بحيث لا يغيب عنهم شاردة ولا واردة ، فهذا غير ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن ، بل لابد لهم من البحث والنظر والرجوع إلى النبي r فيما يشكل عليهم فهمه ؛ وذلك لأن القرآن فيه المجمل، والمشكل ، والمتشابه ، وغير ذلك مما لابد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها. ، كما كان طبيعياً أن يفهم أصحاب النبي
ولا أظن الحق مع ابن خلدون حيث يقول في مقدمته " إن القرآن نزل بلغة العرب ، وعلى أساليب بلاغتهم ، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه" ا هـ (1)، نعم لا أظن الحق معه في ذلك، لأن نزول القرآن بلغة العرب لا يقتضي أن العرب كلهم كانوا يفهمونه في مفرداته وتراكيبه، وأقرب دليل على هذا ما نشاهده اليوم من الكتب المؤلفة على اختلاف لغاتها، وعجز كثير من أبناء هذه اللغات عن فهم كثير مما جاء فيها بلغتهم، إذ الفهم لا يتوقف على معرفة اللغة وحدها ، بل لابد لمن يفتش عن المعاني ويبحث عنها من أن تكون له موهبة عقلية خاصة ، تتناسب مع درجة الكتاب وقوة تأليفه.
***
* تفاوت الصحابة في فهم القرآن :
ولو أننا رجعنا إلى عهد الصحابة لوجدنا أنهم لم يكونوا في درجة واحدة بالنسبة لفهم معاني القرآن ، بل تفاوتت مراتبهم ، وأشكل على بعضهم ما ظهر لبعض آخر منهم ، وهذا يرجع إلى تفاوتهم في القوة العقلية ، وتفاوتهم في معرفة ما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات ، وأكثر من هذا، أنهم كانوا لا يتساوون في معرفة المعاني التي وضعت لها المفردات، فمن مفردات القرآن ما خفي معناه على بعض الصحابة، ولا ضير في هذا ، فإن اللغة لا يحيط بها إلا معصوم ، ولم يدع أحد أن كل فرد من أمة يعرف جميع ألفاظ لغتها.
ومما يشهد لهذا الذي ذهبنا إليه ، ما أخرجه أبو عبيدة في الفضائل عن أنس " أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر :" وفاكهة وأباً"(2).. فقال هذه الفاكهة قد عرفناها ، فما الأب ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر "(3) . وما روي من أن عمر كان على المنبر فقرأ : " أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ"(4).. ثم سأل عن معنى التخوف، فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقص ، ثم أنشده :
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ منها تامِكاً قَرِداً
كما تَخَوَّفَ عُودَ النبعةِ السَّفن(5)
وما أخرجه أبو عبيدة من طريق مجاهد عن ابن عباس قال :" كنت لا أدري ما فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يتخاصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، والآخر يقول :أنا ابتدأتها"(1).
فإذا كان عمر بن الخطاب يخفي عليه معنى الأب ومعنى التخوف، ويسأل عنها غيره ، وابن عباس ـ وهو ترجمان القرآن ـ لا يظهر له معنى فاطر إلا بعد سماعها من غيره ، فكيف شأن غيرهما من الصحابة ؟ لا شك أن كثيراً منهم كانوا يكتفون بالمعنى الإجمالي للآية ، فيكفيهم ـ مثلاً ـ أن يعلموا من قوله تعالى " وفاكهة وأباً " أنه تعداد للنعم التي أنعم الله بها عليهم ، ولا يلزمون أنفسهم بتفهم معنى الآية تفصيلاً ما دام المراد واضحاً جلياً(2).
وماذا يقول ابن خلدون فيما رواه البخاري ، من أن عدي بن حاتم لم يفهم معنى قوله تعالى :" وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ "(3)r بشأنه، فعرض بقلة فهمه ، وأفهمه المراد(4)... وبلغ من أمره أن أخذ عقالاً أبيض وعقالاً أسود ، فلما كان بعض الليل ، نظر أليهما فلم يستبينا ، فلما أصبح أخبر النبي
الحق أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ كانوا يتفاوتون في القدرة على فهم القرآن وبيان معانيه المرادة منه ، وذلك راجع ـ كما تقدم ـ إلى اختلافهم في أدوات الفهم ، فقد كانوا يتفاوتون في العلم بلغتهم ، فمنهم من كان واسع الاطلاع فيها ملماً بغريبها ، ومنهم دون ذلك ، ومنهم من كان يلازم النبي r فيعرف من أسباب النزول ما لا يعرفه غيره، أضف إلى هذا وذاك أن الصحابة لم يكونوا في درجتهم العلمية ومواهبهم العقلية سواء ، بل كانوا مختلفين في ذلك اختلافاً عظيماً.
قال مسروق: " جالست أصحاب محمد r فوجدتهم كالإخاذ ـ يعنى الغدير ـ فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين ، والإخاذ يروي العشرة ، والإخاذ يروي المائة ، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم "(5).
هذا .. وقد قال ابن قتيبة ـ وهو ممن تقدم على ابن خلدون بقرون ـ : " إن العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه ، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض "(6).
ويظهر أن ابن خلدون قد شعر بذلك فصرح به فيما أورده بعد عبارته السابقة بقليل حيث قال:" وكان النبي r يبين المجمل ، ويميز الناسخ من المنسوخ، ويعرفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولاً عنه " .. (1)r وهذا تصريح منه بأن العرب كان لا يكفيهم في معرفة معاني القرآن معرفتهم بلغته ، بل كانوا في كثير من الأحيان بحاجة إلى توقيف من الرسول
***
مصادر التفسير في هذا العصر
كان الصحابة في هذا العصر يعتمدون في تفسيرهم للقرآن الكريم على أربعة مصادر :
الثالث : الاجتهاد وقوة الاستنباط.
الرابع : أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
ونوضح كل مصدر من هذه المصادر الأربعة فنقول :
* المصدر الأول : القرآن الكريم :
الناظر في القرآن الكريم يجد أنه قد اشتمل على الإيجاز والإطناب، وعلى الإجمال والتبيين، وعلى الإطلاق والتقييد، وعلى العموم والخصوص. وما أوجز في مكان قد يبسط في مكان آخر، وما أجمل في موضع قد يبين في موضع آخر ، وما جاء مطلقاً في ناحية قد يلحقه التقييد في ناحية أخرى، وما كان عاماً في آية قد يدخله التخصيص في آية أخرى.
لهذا كان لابد لمن يتعرض لتفسير كتاب الله تعالى أن ينظر في القرآن أولاً ، فيجمع ما تكرر منه في موضوع واحد ، ويقابل الآيات بعضها ببعض؛ ليستعين بما جاء مجملاً، وليحمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص ، وبهذا يكون قد فسر القرآن بالقرآن ، وفهم مراد الله بما جاء عن الله ، وهذه مرحلة لا يجوز لأحد مهما كان أن يعرض عنها، ويتخطاها إلى مرحلة أخرى، لأن صاحب الكلام أدرى بمعاني كلامه، وأعرف به من غيره.
وعلى هذا فمن تفسير القرآن بالقرآن : أن يشرح ما جاء موجزاً في القرآن بما جاء في موضع آخر مسهباً ، وذلك كقصة آدم وإبليس ،جاءت مختصرة في بعض المواضع، وجاءت مسهبة مطولة في موضع آخر، وكقصة موسى وفرعون، جاءت موجزة في بعض المواضع ، وجاءت مسهبة مفصلة في موضع آخر.
ومن تفسير القرآن بالقرآن : أن يحمل المجمل على المبين ليفسر به، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن، فمن ذلك تفسير قوله تعالى في سورة غافر الآية (28) : " وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ".. بأنه العذاب الأدنى المعجل في الدنيا، لقوله تعالى في آخر هذه السورة آية (77):" فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ".. ومنه تفسير قوله تعالى في سورة النساء آية (27) " وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً ".. بأهل الكتاب لقوله تعالى في السورة نفسها آية (44) : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ".. ومنه قوله تعالى في سورة البقرة آية (37) " فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ".. فسرتها الآية (23) من سورة الأعراف :" قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ".. ومنه قوله تعالى في سورة الأنعام آية (103) : " لا تدركه الأبصار " فسرتها آية :"إلى ربها ناظرة " آية (23) من سورة القيامة. ومنه قوله تعالى في سورة المائدة آية (1) :" أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ".. فسرتها آية " حرمت عليكم الميتة ".. الآية (3) من السورة نفسها.
ومن تفسير القرآن بالقرآن حمل المطلق على المقيد ، والعام على الخاص ، فمن الأول : ما نقله الغزالي عن أكثر الشافعية من حمل المطلق على المقيد في صورة اختلاف الحكمين عند اتحاد السبب، ومثل له بآية الوضوء والتيمم، فإن الأيدي مقيدة في الوضوء بالغاية في قوله تعالى في سورة المائدة آية (6) " فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ".. ومطلقة في التيمم في وقوله تعالى في الآية نفسها : " فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ".. فقيدت في التيمم بالمرافق أيضاً(1) ومن أمثلته أيضاً عند بعض العلماء :آية الظهار مع آية القتل، ففي كفارة الظهار يقول الله تعالى في سورة المجادلة آية (3) " فتحرير رقبة ".. وفي كفارة القتل ، يقول في سورة النساء آية (92) " فتحرير رقبة مؤمنة ".. فيحمل المطلق في الآية الأولى على المقيد في الآية الثانية ، بمجرد ورود اللفظ المقيد من غير حاجة إلى جامع عند هذا البعض من العلماء(2).
ومن الثاني : نفي الخلة والشفاعة على جهة العموم في قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ "(3).. وقد استثنى الله المتقين من نفي الخلة في قوله :" الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ "(4).. واستثنى ما أذن فيه من الشفاعة بقوله : " وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى "(5).. ومثل قوله تعالى : " من يعمل سوءاً يجز به"(6)..فإن ما فيها من عموم خصص بمثل قوله " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ "(7)..
ومن تفسير القرآن بالقرآن : الجمع بين ما يتوهم انه مختلف ، كخلق آدم من تراب في بعض الآيات، ومن طين في غيرها ، ومن حمأ مسنون ، ومن صلصال، فإن هذا ذكر للأطوار التي مر بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح فيه.
ومن تفسير القرآن بالقرآن حمل بعض القراءات على غيرها، فبعض القراءات تختلف مع غيرها في اللفظ وتتفق في المعنى، فقراءة ابن مسعود t " أو يكون لك بيت من ذهب " تفسر لفظ الزخرف في القراءة المشهورة : " أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ"(1) .. وبعض القراءات تختلف مع غيرها في اللفظ والمعنى، وإحدى القراءتين تعين المراد من القراءة الأخرى، فمثلاً قوله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ "(2).. وفسرتها القراءة الأخرى "فامضوا إلى ذكر الله "؛لأن السعي عبارة عن المشي السريع ، وهو وإن كان ظاهر اللفظ إلا أن المراد منه مجرد الذهاب.
وبعض القراءات تختلف بالزيادة والنقصان، وتكون الزيادة في إحدى القراءتين مفسرة للمجمل في القراءة التي لا زيادة فيها، فمن ذلك : القراءة المنسوبة لابن عباس:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج".. فسرت القراءة الأخرى التي لا زيادة فيها(3) ، وأزالت الشك من قلوب بعض الناس الذين كانوا يتحرجون من الصفق في أسواق الحج، والقراءة المنسوبة لسعد بن أبي وقاص :" وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس".. فسرت القراءة الأخرى(4) التي لا تعرض فيها لنوع الأخوة.
وهنا تختلف أنظار العلماء في مثل هذه القراءات فقال بعض المتأخرين: إنها من أوجه القرآن، وقال غيرهم: إنها ليست قرآناً، بل هي من قبيل التفسير، وهذا هو الصواب: لأن الصحابة كانوا يفسرون القرآن ويرون جواز إثبات التفسير بجانب القرآن فظنها بعض الناس ـ لتطاول الزمن عليها ـ من أوجه القراءات التي صحت عن رسول الله r ورواها عنه أصحابه.
ومما يؤيد أن القراءات مرجع مهم من مراجع تفسير القرآن بالقرآن، ما روي عن مجاهد أنه قال : "لو كنت قرأت ابن مسعود قبل أن أسأل ابن عباس ما احتجت أن أسأله عن كثير مما سألته عنه"(5). هذا هو تفسير القرآن بالقرآن ، وهو ما كان يرجع إليه الصحابة في تعرف بعض معاني القرآن، وليس هذا عملاً آلياً لا يقوم على شيء من النظر، وإنما هو عمل يقوم على كثير من التدبر والتعقل ؛ إذ ليس حمل المجمل على المبين، أو المطلق على المقيد ، أو العام على الخاص ، أو إحدى القراءتين على الأخرى بالأمر الهين الذي يدخل تحت مقدور كل إنسان ، وإنما هو أمر يعرفه أهل العلم والنظر خاصة.
ومن أجل هذا نستطيع أن نوافق الأستاذ جولدزيهر على ما قاله في كتابه " المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن" من أن : " المرحلة الأولى لتفسير القرآن والنواة التي بدأ بها، تتركز في القرآن نفسه وفي نصوصه نفسها. وبعبارة أوضح : في قراءاته، ففي هذه الأشكال المختلفة، نستطيع أن نرى أول محاولة للتفسير "(1).. نعم نستطيع أن نوافقه على أن المرحلة الأولى للتفسير تتركز في القرآن نفسه على معنى رد متشابهه إلى محكمه، وحمل مجمله على مبينه، وعامه على خاصه، ومطلقه على مقيده..الخ، كما تتركز في بعض قراءاته المتواترة. وما كان من قراءات غير متواترة فلا يعول عليها باعتبارها قرآناً ، وإن عول على بعض منها باعتبارها تفسيراً للنص القرآني، نعم.. نستطيع أن نوافقه على هذا إن أراده، ولكن لا نستطيع أن نوافقه على ما يرمي إليه من إلحاد في آيات الله، وما يهدف إليه من اتهام المسلمين بالتساهل في قبول القراءات، وذلك حيث يقول في صفحة (1،2) من الكتاب نفسه:" وقد تسامح المسلمون في هذه القراءات واعترفوا بها جميعاً على قدم المساواة بالرغم مما قد يفرض من أن الله تعالى قد أوحى بكلامه كلمة كلمة وحرفاً حرفاً وأن مثله من الكلام المحفوظ في اللوح والذي تنزل به الملك على الرسول المختار يجب أن يكون على شكل واحد بلفظ واحد"اهـ.
كما لا نستطيع أن نوافقه على ما نسبه إلى الصحابة من أنهم هم الذين أحدثوا هذه القراءات جميعاً، ونفي كونها من كلام الله ، وعلل ما ذهب إليه بعلل واهية لا تقوم إلا على أوهام تخيلها فظنها حقائق، وذلك حيث يقول في صفحة (6) بعد أن ساق هذه الآية "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً . لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً "(2) قال : " قرأ بعضهم بدلاً من "وتعزروه" بالراء " وتعززوه" بالزاي، من العزة والتشريف، وإني أرى في الانتقال من تلك القراءة إلى هذه القراءة ـ وإن كنت لا أجزم بذلك _ أن شيئاً من التفكير في تصور أن الله قد ينتظر مساعدة من الإنسان قد دعا إلى ذلك، حقاً إنه قد جاءت في القرآن آيات بهذا المعنى _ سورة الفتح 40 ومحمد 7 والحشر 8 وغيرها ـ بيد أن اللفظ المستعمل في هذه الآيات وهو " نصر" يقوم على أساس أخلاقي تهذيبي ، وليس كالتعبير بلفظ " عزر " وهي الكلمة المتفقة مع اللفظ العبري " عزار "، والتعبير بعزر تعبير حاد يقوم على أساس من المساعدة المادية " ا هـ.
فهذا الكاتب دفعه إلى رأيه الذي رآه ولم يقطع به كما هي عادته، جهله بأساليب العرب وأفانينها في البلاغة؛ فالعرب لا يفهمون من قوله تعالى: " وتعزروه" بالراء معنى النصرة المادية، بل أول ما تصل هذه الكلمة إلى أسماعهم يعلمون أن الله يريد منهم نصر دينه ونصر رسوله، وكثير من مثل هذه العبارات وارد في القرآن ؛ وما ذكره من التفرقة بين لفظ "نصر" ولفظ " عزر" من أن الأول يقوم على أساس أخلاقي تهذيبي، والثاني يقوم على أساس من المساعدة المادية، لا يقوم على أساس من الفقه اللغوي.
ويقول الكاتب في صفحة (19،20) من الكتاب نفسه: وأحب أن أهتم هنا ببعض ما ذكرته من هذه القراءات؛ لما فيه من طابع خاص ذي مبادئ جوهرية، فبعض هذه الاختلافات ترجع أسبابها إلى الخوف من أن تنسب إلى الله ورسوله عبارات قد يلاحظ فيها بعض أصحاب وجوه النظر الخاصة ما يمس الذات الإلهية العالية أو الرسول ، أو مما يرى أنه غير لائق بالمقام وهنا تغيرت القراءات من هذه الناحية بسبب هذه الأفكار التنزيهية" ..ثم ضرب لذلك أمثلة فقال :" ففي سورة آل عمران آية (18):" شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ " .. فقد فهم أن هناك ما يصطدم بشهادة الله نفسه على قدم المساواة مع الملائكة وأولي العلم فقرأ بعضهم "شهداء الله" وبهذا يكون الكلام ملتئماً مع الآية المتقدمة :" الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار، شهداء الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم" ا هـ.
والمتأمل أدنى تأمل يرى أن هذا الوهم الذي ادعى حصوله من القراءة الأولى لا يمكن أن يدور بخلد عاقل، ولم نر أحداً من العلماء خطر له هذا الإيهام، فشهادة الله مع الملائكة لا غبار عليها، ولا تفيد مساواته لمن ذكروا معه.
ويقول في صفحة (21،22) : " وفي سورة العنكبوت آيتي (2،3): " أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ".. فقوله تعالى " فليعلمن " قد يوحي إلى النفس أن الله قد علم ذلك أولاً عند الفتنة كأنه لم يكن يعلم بذلك في الأزل، ويظهر أن مثل هذا الظن قد أدى إلى قراءة علي والزهري " فيعلمن" من الإعلام، بمعنى فليعرفن الله الناس أخلاق هؤلاء وهؤلاء، أو بمعنى ليسمنهم بعلامة يعرفون بها ، من بياض الوجوه وسوادها، وكحل العيون وزرقتها . وزرقة العيون عند العرب علامة على القبح والغدر ، وأحياناً على الحسد ا هـ.
وللرد على هذا نقول : إن الله تعالى لا يعلم الشيء موجوداً إلا بعد وجوده، فتعلق علمه بالحادث باعتبار أنه حدث حادث ، وهذا لا ينافي كونه عالماً من الأزل بالشيء قبل وقوعه، فالكاتب ظن أن العلم المترتب على الفتنة هو العلم الأزلي ، ونسى علم الانكشاف والظهور ، فبنى على هذا أن من قرأ " فليعلمن " من الإعلام ، قرأ بها فراراً مما تفيده القراءة الأولى، وهذا قول باطل، ولا يخفي على صحابة رسول الله r أن فتنة الله لمن يشاء من عباده ، يراد منها أن يظهر للناس في الخارج ما اشتمل عليه علمه من الأزل ، فكيف يعقل أنهم عدلوا عن قراءة " فليعلمن " من العلم إلى قراءة "فليعلمن" من الإعلام لمجرد هذا الوهم الباطل ؟ اللهم إن الكاتب لا يريد إلا أن يوقع في أذهان الناس . أن القرآن كان عرضة للتبديل والتحريف من أصحاب رسول الله r.
وقد ساق الكاتب أمثلة كثيرة في كتابه ، كلها من هذا القبيل ولهذا الغرض بدون أن يفرق بين قراءة متواترة وقراءة شاذة، ولو أنه علم ما اشترطه المسلمون لصحة القراءة وقبولها من تواترها عن صاحب الرسالة. أو صحة السند وموافقة العربية وموافقة الرسم العثماني ، لما صار إلى هذا الرأي الباطل، ولما نسب إلى الصحابة رضوان الله عليهم مثل هذا التحريف والتبديل في كتاب ضمن الله حفظه فقال : " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ "(1)..
***
* المصدر الثاني ـ النبي r:
المصدر الثاني الذي كان يرجع إليه الصحابة في تفسيرهم لكتاب الله تعالى هو رسول الله r، فكان الواحد منهم إذا أشكلت عليه آية من كتاب الله، رجع إلى رسول الله r في تفسيرها، فيبين له ما خفي عليه ، لأن وظيفته البيان، كما أخبر الله عنه بذلك في كتابه حيث قال : " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ "(2)r فيما رواه أبو داود بسنده إلى الرسول r أنه قال : " ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه. ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه".. الحديث(3)... وكما نبه على ذلك رسول الله
والذي يرجع إلى كتب السنة يجد أنها قد أفردت للتفسير باباً من الأبواب التي اشتملت عليها، ذكرت فيه كثيراً من التفسير المأثور عن رسول الله r ، فمن ذلك :
ما أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما عن عدي بن حبان قال : قال رسول الله r : " إن المغضوب عليهم هم اليهود ، وإن الضالين هم النصارى".
وما رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله r " الصلاة الوسطى صلاة العصر".
وما رواه أحمد والشيخان وغيرهم عن ابن مسعود قال : " لما نزلت هذه الآية : " الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ "(1).. " شق ذلك على الناس فقالوا : يا رسول الله .. وأينا لا يظلم نفسه ؟ قال: "أنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : إن الشرك لظلم عظيم ؟ إنما هو الشرك".
وما أخرجه مسلم وغيره عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله r يقول وهو على المنبر : "وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ"(2).. إلا وإن القوة الرمي".
وما أخرجه الترمذي عن علي قال : سألت رسول الله r عن يوم الحج الأكبر فقال :" يوم النحر ".
وما أخرجه الترمذي وابن جرير عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله r يقول :" وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى"(3).. قال :" لا إله إلا الله".
وما أخرجه أحمد والشيخان وغيرهما عن عائشة قالت : قال رسول الله r " من نوقش الحساب عذب" قلت: أليس يقول الله " فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً "(4) ؟ قال :" ليس ذلك بالحساب .. ولكن ذلك العرض".
وما أخرجه أحمد ومسلم عن أنس قال : قال رسول الله r " الكوثر نهر أعطانيه ربي في الجنة"(5).
وغير هذا كثير مما صح عن رسول الله r.
***
* الوضع على رسول الله r في التفسير :
غير أن القصاص والوضاع زادوا في هذا النوع من التفسير كثيراً، ونسبوا إلى رسول الله r ما لم يقله، وليس أدل على هذا مما أخرجه الحاكم عن أنس أنه قال : سئل رسول الله r عن قوله تعالى:"والقناطير المقنطرة "(6) r :" القنطار اثنا عشر ألف أوقية "(7)... قال :" القنطار ألف أوقية"، وما أخرجه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله
فمثل هذا التناقض في مقدار وزن القنطار، لا يمكن أن يصدر عن رسول الله r، ولهذا رد العلماء كثيراً مما ورد من التفسير منسوباً إلى رسول الله r ، وقد نقل عن الإمام أحمد انه قال : " ثلاثة ليس لها أصل. التفسير، والملاحم، والمغازي" ومراده من قوله هذا ـ كما نقل عن المحققين من أتباعه ـ أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متصلة(1)r في التفسير. أما الأحاديث المنقولة عن الصحابة والتابعين فلا وجه لإنكارها، وقد اعترف هو بنفسه ببعضها ا هـ(2). لا كما استظهره الأستاذ أحمد أمين حيث يقول :" وظاهر هذه الجملة أن الأحاديث التي وردت في التفسير لا أصل لها وليست بصحيحة، والظاهر ـ كما قال بعضهم ـ أنه يريد الأحاديث المرفوعة إلى النبي
وحيث يقول" إن بعض العلماء أنكر هذا الباب بتاتاً ، أعني أنه أنكر صحة ورود ما يروونه من هذا الباب، فقد روي عن الإمام أحمد أنه قال:" ثلاثة ليس لها أصل : التفسير، والملاحم ، والمغازي"(3).
نعم .. ليس الأمر كما استظهره صاحب ضحى الإسلام وفجر الإسلام، لأنه مما لا شك فيه أن النبيr صحت عنه أحاديث في التفسير، والإمام أحمد نفسه معترف بها، فكيف يعقل أن الإمام أحمد يريد من عبارته السابقة نفي الصحة عن جميع الأحاديث المرفوعة إلى النبيr في التفسير ؟ ـ وظني أن الأستاذ أراد بالبعض المذكور، المحققين من أصحاب الإمام أحمد، غاية الأمر أنه حمل كلامهم على غير ما أرادوا فوقع في هذا الخطأ ، والعجب أنه نقل عن الإتقان في هامش فجر الإسلام صفحة 245 ما استظهرناه من كلام المحققين من أتباع الإمام أحمد.
واعترف في فجر الإسلام صفحة 245، وضحي الإسلام الجزء الثاني صفحة 138 : بأنه قد صح عن رسول الله r تفسيرات لبعض ما أشكل من القرآن ، وإن كان قد اضطرب في كلامه فجعل ما ورد من التفسير عن رسول الله r بالغاً حد الكثرة، حيث قال في فجر الإسلام صفحة 245 " وهذا النوع كثير : وردت منه أبواب في كتب الصحاح الستة، وزاد فيه القصاص والوضاع كثيراً"،ثم عاد في ضحى الإسلام جزء 2 صفحة 138 فجعل ما ورد عن الرسول من التفسير بالغاً حد القلة حيث قال : " وما روي عن رسول الله r في ذلك قليل، حتى روي عن عائشة أنها قالت : لم يكن النبي r يفسر شيئاً من القرآن إلا آيات تعد، علمهن إياه جبريل"، وفاته أن الحديث مطعون فيه، فذكره دليلاً عن مدعاه ولم يعقب عليه، مع أنه أحال على الطبري في نقل الحديث ، والطبري وضح علته ، وتأوله على فرض الصحة كما سنوضح ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
***
* هل تناول النبي rالقرآن كله بالبيان ؟
قد يقول قائل : إن الله تعالى يقول في سورة النحل ( آية 44): " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ".. فهل بين رسول الله r لأصحابه القرآن كله، إفراداً وتركيباً، وما يتبع ذلك من بيان الأحكام ؟ أو أنه بين لهم بعضه وسكت عن بعضه الآخر ؟ ثم على أي وجه كان هذا البيان من الرسول r لأصحابه ؟. وللجواب عن هذا نقول :
* المقدار الذي بينه رسول الله r من القرآن لأصحابه :
اختلف العلماء في المقدار الذي بينه النبي r من القرآن لأصحابه : فمنهم من ذهب إلى القول بأن رسول الله r بين لأصحابه كل معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه،وعلى رأس هؤلاء ابن تيميه(1).
ومنهم من ذهب إلى القول بأن رسول الله r لم يبين لأصحابه من معاني القرآن إلا القليل، وعلى رأس هؤلاء : الخوبي والسيوطي(2) ، وقد استدل كل فريق على ما ذهب إليه بأدلة نوردها ليتضح لنا الحق ويظهر الصواب.
* أدلة من قال بأن النبي r بين كل معاني القرآن :
أولاً : قوله تعالى :" وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ "..
والبيان في الآية يتناول بيان معاني القرآن ، كما يتناول بيان ألفاظه، وقد بين الرسول ألفاظه كلها ، فلابد أن يكون قد بين كل معانيه أيضاً، وإلا كان مقصراً في البيان الذي كلف به من الله.
ثانياً : ما روي عن أبي عبدالرحمن السلمي(3)r عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً "، ولهذا كانوا يبقون مدة طويلة في حفظ السورة، وقد ذكر الإمام مالك في الموطأ : أن ابن عمر أقام على حفظ البقرة ثمان سنوات، والذي حمل الصحابة على هذا ، ما جاء في كتاب الله تعالى من قوله :" كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ "(4).. وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وقوله :" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ "(5).. وعقل الكلام متضمن لفهمه، ومن المعلوم أن كل كلام يقصد منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، والقرآن أولى بذلك من غيره. أنه قال :" حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان ، وعبدالله بن مسعود، وغيرهما : أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي
فهذه الآثار تدل على أن الصحابة تعلموا من رسول الله r معاني القرآن كلها ، كما تعلموا ألفاظه.
ثالثاً : قالوا إن العادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم كالطب أو الحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكتاب الله الذي فيه عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ؟
رابعاً : ما أخرجه الإمام احمد وابن ماجه عن عمر t أنه فقال : من آخر ما نزل آية الربا، وإن رسول الله r قبض قبل أن يفسرها، وهذا يدل بالفحوى على أنه كان يفسر لهم ما نزل، وأنه إنما لم يفسر هذه الآية ، لسرعة موته بعد نزولها ، وإلا لم يكن للتخصيص بها وجه(1).
* أدلة من قال بأن النبي r لم يبين لأصحابه إلا القليل من معاني القرآن :
استدل أصحاب هذا الرأي بما يأتي :
أولاً : ما أخرجه البزار عن عائشة قالت : ما كان رسول الله r يفسر شيئاً من القرآن إلا آياً بعدد، علمه إياهن جبريل"(2).
ثانياً : قالوا : إن بيان النبي r لكل معاني القرآن متعذر ولا يمكن ذلك إلا في آي قلائل ، والعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل، ولم يأمر الله نبيه بالتنصيص على المراد في جميع آياته لأجل أن يتفكر عباده في كتابه(3).
ثالثاً : قالوا: لو كان رسول الله r بين لأصحابه كل معاني القرآن لما كان لتخصيصه ابن عباس بالدعاء له بقوله :" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" فائدة ؛ لأنه يلزم من بيان رسول الله r لأصحابه كل معاني القرآن استواؤهم في معرفة تأويله ، فكيف يخصص ابن عباس بهذا الدعاء؟(4).
ومن يتأمل فيما تقدم من أدلة الفريقين يتضح له أنهما على طرفي نقيض. ورأيي أن كل فريق منهم مبالغ في رأيه . وما استند إليه كل فريق من الأدلة يمكن مناقشته بما يجعله لا ينهض حجة على المدعي.
* مناقشة أدلة الفريق الأول :
فاستدلال ابن تيميه ومن معه على رأيهم بقوله تعالى : " لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ " استدلال غير صحيح ، لأن الرسول ـ بمقتضى كونه مأموراً بالبيان ـ كان ليبين لهم ما أشكل عليهم فهمه من القرآن ، لا كل معانيه ما أشكل منها وما لم يشكل.
وأما استدلالهم بما روي عن عثمان وابن مسعود وغيرهما من أنهم كانوا إذا تعلموا من النبيr عشر آيات من القرآن لم يجاوزها حتى يتعلموا ما فيها ، فهو استدلال لا ينتج المدعي ، لأن غاية ما يفيده، أنهم كانوا لا يجاوزون ما تعلموه من القرآن حتى يفهموا المراد منه ، وهو اعم من أن يفهموه من النبي r أو من غيره من إخوانهم الصحابة، أو من تلقاء أنفسهم، حسبما يفتح الله به عليهم من النظر والاجتهاد.
وأما الدليل الثالث ، فكل ما يدل عليه : هو أن الصحابة كانوا يفهمون القرآن ويعرفون معانيه ، شأن أي كتاب يقرؤه قوم ، ولكن لا يلزم منه أن يكونوا قد رجعوا إليه النبي r في كل لفظ منه.
وأما الدليل الرابع ، فلا يدل أيضاً ، أن وفاة النبي r قبل أن يبين لهم آية الربا لا تدل على أنه كان يبين لهم كل معاني القرآن ؛ فلعل هذه الآية كانت مما أشكل على الصحابة ، فكان لابد من الرجوع فيها إلى النبي r ، شأن غيرها من مشكلات القرآن.
* مناقشة أدلة الفريق الثاني :
وأما استدلال أصحاب الرأي الثاني بحديث عائشة ، فهو استدلال باطل ؛ أن الحديث منكر غريب ، لأنه من رواية محمد بن جعفر الزبيري ، وهو مطعون فيه ، قال البخاري : لا يتابع في حديثه ، وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي " منكر الحديث " وقال فيه ابن جرير الطبري " إنه ممن لا يعرف في أهل الآثار "، وعلى فرض صحة الحديث فهو محمول ـ كما قال أبو حيان ـ على مغيبات القرآن ، وتفسيره لمجمله ، ونحوه مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله(1). وفي معناه ما قاله ابن جرير(2)وما قاله ابن عطية(3).
وأما الدليل الثاني ، فلا يدل أيضاً على ندرة ما جاء عن النبي r في التفسير ؛ إذ أن دعوة إمكان التفسير بالنسبة لآيات قلائل ، وتعذره بالنسبة للكل غير مسلمة ، وأما ما قيل من أن النبي r لم يؤمر بالتنصيص على المراد في جميع الآيات لأجل أن يتفكر الناس في آيات القرآن فليس بشيء ، إذ أن النبي r مأمور بالبيان ، وقد يشكل الكثير على أصحابه فيلزمه البيان، ولو فرض أن القرآن أشكل كله على الصحابة ما كان للنبي r أن يمتنع عن بيان كل آية منه ، بمقتضى أمر الله له في الآية : " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" ..
وأما الدليل الثالث ، فلو سلمنا أنه يدل على أن النبي r لم يفسر كل معاني القرآن ، فلا نسلم أنه يدل على أنه فسر النادر منه كما هو المدعي.
***
والرأي الذي يميل إليه النفس ـ بعد أن اتضح لنا مغالاة كل فريق في دعواه وعدم صلاحية الأدلة لإثبات المدعي ـ هو أن نتوسط بين الرأيين فنقول : إن الرسول r بين الكثير من معاني القرآن ؛ لأصحابه ، كما شهد بذلك كتب الصحاح ، ولم يبين كل معاني القرآن ؛ لأن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه ، ومنه ما يعلمه العلماء ، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها ، ومنه ما لا يعذر أحد في جهالته كما صرح بذلك ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير ، قال : " التفسير على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير تعرفه العلماء . وتفسير لا يعلمه إلا الله "(1).
وبدهي أن رسول الله r لم يفسر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب ؛ لأن القرآن نزل بلغتهم ، ولم يفسر لهم ما تتبادر الأفهام إلى معرفته وهو الذي لا يعذر أحد بجهله؛ لأنه لا يخفى على أحد، ولم يفسر لهم ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة ، وحقيقة الروح ، وغير ذلك من كل ما يجري مجرى الغيوب التي لم يطلع الله عليها نبيه ، وإنما فسر لهم رسول الله r بعض المغيبات التي أخفاها الله عنهم وأطلعه عليها وأمره ببيانها لهم ، وفسر لهم أيضاً كثيراً مما يندرج تحت القسم الثالث، وهو ما يعلمه العلماء ويرجع إلى اجتهادهم ، كبيان المجمل ، وتخصيص العام، وتوضيح المشكل ، وما إلى ذلك من كل ما خفي معناه والتبس المراد به.
هذا .. وإن مما يؤيد أن النبي r لم يفسر كل معاني القرآن، أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقع بينهم الاختلاف في تأويل بعض الآيات ، ولو كان عندهم فيه نص عن رسول الله r
ما وقع هذا الاختلاف ، أو لارتفع بعد الوقوف على النص.
بقى بعد هذا أن نجيب عن الشق الثاني من السؤال ، وهو : على أي وجه كان بيان رسول الله r للقرآن ؟ فنقول :
إن الناظر في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يجد فيهما ما يدل على أن رسول الله r وظيفته البيان لكتاب الله ، أو بعبارة أخرى ، ما يدل على أن مركز السنة النبوية من القرآن ، مركز المبين من المبين.
فمن القرآن ، قوله تعالى : " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ".
ومن السنة ، ما رواه أبو داوود عن المقدام بن معد يكرب ، عن رسول الله r أنه قال : " ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد ، إلا أن يستغني عنها صاحبها ، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه ، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه"(1).
فقوله : " أوتيت الكتاب ومثله معه " معناه أنه أوتي الكتاب وحياً يتلى ، وأوتي من البيان مثله . أي أذن له أن يبين ما في الكتاب. فيعم ويخص، ويزيد عليه ويشرع ما في الكتاب، فيكون في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن. ويحتمل وجهاً آخر : وهو انه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو ، مثل ما أعطي من الظاهر المتلو ، كما قال تعالى في سورة النجم آيتي (3،4):" وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى " .. وأما قوله :" يوشك رجل شبعان .. الخ" فالمقصود منه التحذير من مخالفة السنة التي سنها الرسول وليس لها ذكر في القرآن ، كما هو مذهب الخوارج والروافض الذين تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا(2)r، ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك "(3)وروي الأوزاعي عن مكحول قال : القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن(4). وروي الأوزاعي عن حسان ابن عطية قال : " كان الوحي ينزل على رسول الله
***
* أوجه بيان السنة للكتاب :
وإذ قد اتضح لنا من الآية والحديث والآثار مقدار ارتباط السنة بالكتاب ، ارتباط المبيِّن بالمبيِّن فلنبين بعد ذلك أوجه هذا البيان فنقول :
الوجه الأول : بيان المجمل في القرآن، وتوضيح المشكل ، وتخصيص العالم، وتقييد المطلق، فمن الأول: بيانه عليه الصلاة والسلام لمواقيت الصلوات الخمس، وعدد ركعاتها، وكيفيتها، وبيانه لمقادير الزكاة، وأوقاتها ، وأنواعها، وبيانه لمناسك الحج. ولذا قال :" خذوا عني مناسككم" وقال :" صلوا كما رأيتموني أصلي ".
وقد روي ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال لرجل " إنك رجل أحمق، أتجد الظهر في كتاب الله أربعاً لا يجهر فيها بالقراءة ؟ ثم عدد عليه الصلاة، والزكاة، ونحو ذلك، ثم قال : أتجد هذا في كتاب الله تعالى مفسراً ؟ إن كتاب الله تعالى أبهم هذا ، وإن السنة تفسر هذا"(1).
ومن الثاني : تفسيره r للخيط الأبيض والخيط الأسود في قوله تعالى : " حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ"(2).. بأنه بياض النهار وسواد الليل.
ومن الثالث : تخصيصه r الظلم في قوله تعالى : " الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ"(3)r " ليس بذلك ؛ إنما هو الشرك"... بالشرك، فإن بعض الصحابة فهم أن الظلم مراد منه العموم ، حتى قال : " وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال النبي
ومن الرابع : تقييده اليد في قوله تعالى : " فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا"(4).. باليمين.
الوجه الثاني : بيان معنى لفظ أو متعلقه ، كبيان المغضوب عليهم باليهود ، والضالين بالنصارى . وكبيان قوله تعالى : " وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ "(5) بأنها مطهرة من الحيض والبزاق والنخامة ، وكبيان قوله تعالى " وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ "(6).. بأنهم دخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا : حبة في شعيرة.
الوجه الثالث : بيان أحكام زائدة على ما جاء في القرآن الكريم ، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها ، وصدقة الفطر ، ورجم الزاني المحصن ، وميراث الجدة ، والحكم بشاهد ويمين ، وغير هذا كثير يوجد في كتب الفروع.
الوجه الرابع : بيان النسخ : كأن يبين رسول الله r أن آية كذا نسخت بكذا ، أو أن حكم كذا نسخ بكذا ، فقوله r : " لا وصية لوارث " بيان منه أن آية الوصية للوالدين والأقربين منسوخ حكمها وإن بقيت تلاوتها . وحديث " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " بيان منه أيضاً لنسخ حكم الآية (15) من سورة النساء : " وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ ".. وغير هذا كثير.
الوجه الخامس : بيان التأكيد ، وذلك بأن تأتي السنة موافقة لما جاء به الكتاب، ويكون القصد من ذلك تأكيد وتقويته، وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " فإنه يوافق قوله تعالى : " لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ"(1).. وقوله عليه الصلاة والسلام : " اتقوا الله في النساء فإنهن عوان في أيديكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله " فإنه موافق لقوله تعالى : " وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ"(2)..
***
* المصدر الثالث من مصادر التفسير في عصر الصحابة ـ الاجتهاد وقوة الاستنباط :
كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، إذا لم يجدوا التفسير في كتاب الله تعالى ، ولم يتيسر لهم أخذه عن رسول الله r رجعوا في ذلك إلى اجتهادهم وإعمال رأيهم ، وهذا بالنسبة لما يحتاج إلى نظر واجتهاد، أما ما يمكن فهمه بمجرد معرفة اللغة العربية فكانوا لا يحتاجون في فهمه إلى إعمال النظر، ضرورة أنهم من خلص العرب ، يعرفون كلام العرب ومناحيهم في القول، ويعرفون الألفاظ العربية ومعانيها بالوقوف على ما ورد من ذلك في الشعر الجاهلي الذي هو ديوان العرب ، كما يقول عمر t .
* أدوات الاجتهاد في التفسير عند الصحابة :
وكثير من الصحابة كان يفسر بعض آي القرآن بهذا الطريق، أعني طريق الرأي والاجتهاد ، مستعيناً على ذلك بما يأتي :
أولاً : معرفة أوضاع اللغة وأسرارها.
ثانياً : معرفة عادات العرب.
ثالثاً : معرفة أحوال اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول القرآن.
رابعاً : قوة الفهم وسعة الإدراك.
فمعرفة أوضاع اللغة العربية وأسرارها، تعين على فهم الآيات التي لا يتوقف فهمها على غير لغة العرب. ومعرفة عادات العرب تعين على فهم كثير من الآيات التي لها صلة بعاداتهم، فمثلاُ قوله تعالى :" إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ"(3) وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا"(4).. لا يمكن فهم المراد منه ، إلا لمن عادات العرب في الجاهلية وقت نزول القرآن... وقوله :"
ومعرفة أحوال اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول القرآن، تعين على فهم الآيات التي فيها الإشارة إلى أعمالهم والرد عليهم.
ومعرفة أسباب النزول، وما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات، تعين على فهم كثير من الآيات القرآنية، ولهذا قال الواحدي"لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها"(1). وقال ابن دقيق العيد :" بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن "(2). وقال ابن تيميه :"معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية. فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب"(3).
وأما قوة الفهم وسعة الإدراك، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده. وكثير من آيات القرآن يدق معناه، ويخفي المراد منه ، ولا يظهر إلا لمن أوتي حظاً من الفهم ونور البصيرة، ولقد كان ابن عباس صاحب النصيب الكبر والحظ الأوفر من ذلك ، وهذا ببركة دعاء رسول الله r له بذلك حيث قال : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
وقد روي البخاري في صحيحه بسنده إلى أبي جحيفة t أنه قال :" قلت لعلي t : هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله ؟ قال : لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن ، وما في هذه الصحيفة، قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وإلا يقتل مسلم بكافر "(4).
هذه هي أدوات الفهم والاستنباط التي استعان بها الصحابة على فهم كثير من آيات القرآن ، وهذا هو مبلغ أثرها في الكشف عن غوامضه وأسراره.
***
* تفاوت الصحابة في فهم معاني القرآن :
غير أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كانوا متفاوتين في معرفتهم بهذه الأدوات، فلم يكونوا جميعاً في مرتبة واحدة، السبب الذي من أجله اختلفوا في فهم معاني القرآن، وإن كان اختلافاً يسيراً بالنسبة لاختلاف التابعين ومن يليهم. ومن أمثلة هذا الاختلاف : ما روي من أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال : إن قدامة شرب فسكر ، فقال عمر : من يشهد على ما تقول ؟ قال الجارود : أبو هريرة يشهد على ما أقول، فقال عمر : يا قدامة إني جالدك، قال : والله لو شربت كما يقول ما كان لك أن تجلدني ، قال عمر : ولم ؟ قال : لأن الله يقول : "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ "(1)r بدراً ، وأحداً ، والخندق ، والمشاهد فقال عمر : ألا تردون عليه قوله ؟ فقال ابن عباس : إن هذه الآيات أنزلت عذراً للماضين وحجة على الباقين ؛ لأن الله يقول : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ"(2).. وقال عمر : صدقت .. ا هـ (3)... فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله
وما روي من أن الصحابة فرحوا حينما نزل قوله تعالى :" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ"(4)r ، وقد كان مصيباً في ذلك ، إذ لم يعش النبي r بعدها إلا أحداً وثمانين يوماً كما روي"(5)... لظنهم أنها مجرد إخبار وبشرى بكمال الدين ، ولكم عمر بكى وقال : ما بعد الكمال إلا النقص ، مستشعراً نعي النبي
وما رواه البخاري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه وقال : لم يدخل هذا معنا وإن لنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه من أعلمكم، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني فيهم إلا ليريهم، فقال ما تقولون في قوله تعالى :" إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ "(6)r اعلمه الله له ، قال :" إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ "..، فذلك علامة أجلك " فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً "(7).. فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول "(8)؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم ولم يقل شيئاً ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا ، فقال ما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله
***
* المصدر الرابع من مصادر التفسير في هذا العصر ـ أهل الكتاب من اليهود والنصارى :
المصدر الرابع للتفسير في عهد الصحابة هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
وذلك أن القرآن الكريم يتفق مع التوراة في بعض المسائل، وبالأخص في قصص الأنبياء، وما يتعلق بالأمم الغابرة، وكذلك يشتمل القرآن على مواضع وردت في الإنجيل كقصة ميلاد عيسى ابن مريم، ومعجزاته عليه السلام.
غير أن القرآن الكريم اتخذ منهجاً يخالف منهج التوراة والإنجيل، فلم يتعرض لتفاصيل جزيئات المسائل، ولم يستوف القصة من جميع نواحيها، بل اقتصر من ذلك على موضع العبرة فقط.
ولما كانت العقول دائماً تميل إلى الاستيفاء والاستقصاء، جعل بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ يرجعون في استيفاء هذه القصص التي لم يتعرض لها القرآن من جميع نواحيها إلى من دخل في دينهم من أهل الكتاب، كعبدالله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهم من علماء اليهود والنصارى.
وهذا بالضرورة كان بالنسبة إلى ما ليس عندهم فيه شيء عن رسول الله r ، لأنه لو ثبت شيء في ذلك عن رسول الله ما كانوا يعدلون عنه إلى غيره مهما كان المأخوذ عنه.
***
* أهمية هذا المصدر بالنسبة للمصادر السابقة :
غير أن رجوع بعض الصحابة إلى أهل الكتاب، لم يكن له من الأهمية في التفسير ما للمصادر الثلاثة السابقة، وإنما كان مصدراً ضيقاً محدوداً، وذلك أن التوراة والإنجيل وقع فيهما كثير من التحريف والتبديل، وكان طبيعياً أن يحافظ الصحابة على عقيدتهم، ويصونوا القرآن عن أن يخضع في فهم معانيه لشيء مما جاء ذكره في هذه الكتب التي لعبت فيها أيدي المحرفين، فكانوا لا يأخذون عن أهل الكتاب إلا ما يتفق وعقيدتهم ولا يتعارض مع القرآن. أما ما اتضح لهم كذبه مما يعارض القرآن ويتنافى مع العقيدة فكانوا يرفضونه ولا يصدقونه، ووراء هذا وذاك ما هو مسكوت عنه، لا هو من قبيل الأول، ولا هو من قبيل الثاني ، وهذا النوع كانوا يسمعونه من أهل الكتاب ويتوقفون فيه، فلا يحكمون عليه بصدق ولا بكذب، امتثالاً لقول الرسول r : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا … الآية".
وسنوفق بمشيئة الله تعالى بين هذا الحديث وحديث : " بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج …" ونذكر مدى تأثير اليهودية، والنصرانية على التفسير في أدواره المختلفة من لدن عصر الصحابة إلى عصر التدوين، وذلك عند الكلام عن التفسير المأثور إن شاء الله تعالى.
***
المفسرون من الصحابة
اشتهر بالتفسير من الصحابة عدد قليل، قالوا في القرآن بما سمعوه من رسول الله r مباشرة أو بالواسطة، وبما شاهدوه من أسباب النزول، وبما فتح الله به عليهم من طريق الرأي والاجتهاد.
* أشهر المفسرين من الصحابة :
وقد عد السيوطي رحمه الله في الإتقان من اشتهر بالتفسير من الصحابة وسماهم، وهم : الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وعبدالله بن الزبير ، رضي الله عنهم أجمعين.
وهناك من تكلم في التفسير من الصحابة غير هؤلاء : كأنس بن مالك ، وأبي هريرة ، وعبدالله بن عمر ، وجابر بن عبدالله ، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعائشة ، غير أن ما نقل عنهم في التفسير قليل جداً، ولم يكن لهم من الشهرة بالقول في القرآن ما كان للعشرة المذكورين أولاً ، كما أن العشرة الذين اشتهروا بالتفسير، تفاوتوا قلة وكثرة ، فأبو بكر وعمر وعثمان لم يرد عنهم في التفسير إلا النزر اليسير، ويرجع السبب في ذلك وجودهم في وسط أغلب أهله علماء بكتاب الله ، واقفون على أسراره، عارفون بمعانيه وأحكامه، مكتملة فيهم خصائص العروبة، مما جعل الحاجة إلى الرجوع إليهم في التفسير غير كبيرة.
أما علي بن أبي طالب t، فهو أكثر الخلفاء الراشدين رواية عنه في التفسير، والسبب في ذلك راجع إلى تفرغه عن مهام الخلافة مدة طويلة، دامت إلى نهاية خلافة عثمان t وتأخر وفاته إلى زمن كثرت فيه حاجة الناس إلى من يفسر لهم ما خفي عنهم من معاني القرآن، وذلك ناشئ من اتساع رقعة الإسلام، ودخول كثير من الأعاجم في دين الله ، مما كاد يذهب بخصائص اللغة العربية.
وكذلك كثرت الرواية في التفسير عن عبدالله بن عباس ، وعبدالله ابن مسعود، وأبيَّ بن كعب، لحاجة الناس إليهم، ولصفات عامة مكنت لهم ولعلي بن أبي طالب أيضاً في التفسير، هذه الصفات هي : قوتهم في اللغة العربية، وإحاطتهم بمناحيها وأساليبها ، وعدم تحرجهم من الاجتهاد وتقرير ما وصلوا إليه باجتهادهم، ومخالطتهم للنبي r مخالطة مكنتهم من معرفة الحوادث التي نزلت فيها آيات القرآن، نستثنى من ذلك ابن عباس، فإنه لم يلازم النبي r في شبابه. لوفاة النبي r وهو في سن الثالثة عشرة أو قريب منها ، لكنه استعاض عن ذلك بملازمة كبار الصحابة ، يأخذ عنهم ويروى لهم.
أما باقي العشرة وهم : زيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وعبدالله ابن الزبير، فهم وإن اشتهروا بالتفسير إلا أنهم قلت عنهم الرواية ولم يصلوا في التفسير إلى ما وصل إليه هؤلاء الأربعة المكثرون.
لهذا نرى الإمساك عن الكلام في شأن أبي بكر، وعمر ، وعثمان، وزيد ابن ثابت، وأبي موسى الأشعري، وعبدالله بن الزبير، ونتكلم عن علي، وابن عباس ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، نظراً لكثرة الرواية عنهم في التفسير، كثرة غذت مدارس الأمصار على اختلافها وكثرتها.
ولو أنا رتبنا هؤلاء الأربعة حسب كثرة ما روي عنهم لكان أولهم عبدالله بن عباس ، ثم عبدالله بن مسعود ، ثم علي بن أبي طالب ، ثم أبي بن كعب وسنتكلم عن كل واحد من هؤلاء الأربعة ، بما يتناسب مع مشربه في التفسير ومنحاه الذب نحاه فيه.
***
1- عبدالله بن عباس
هو عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي ، ابن عم رسول الله r ، وأمه لبابة الكبرى بنت الحارث ابن حزن الهلالية. ولد والنبي r وأهل بيته بالشعب بمكة. فأتى به النبي r فحنكه بريقه، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، ولازم النبي r في صغره؛ لقرابته منه، ولأن خالته ميمونة كانت من أزواج رسول الله r ، وتوفى رسول الله r وله من العمر ثلاث عشرة سنة، وقيل خمس عشرة ، فلازم كبار الصحابة وأخذ عنهم ما فاته من حديث رسول الله r ، وكانت وفاته سنة ثمان وستين على الأرجح ، وله من العمر سبعون سنة .مات بالطائف ودفن بها ، وضعه في قبره محمد ابن الحنفية، وقال بعد أن سوى التراب : مات والله اليوم حبر هذه الأمة.
***
كان ابن عباس يلقب بالحبر والبحر لكثرة علمه، وكان على درجة عظيمة من الاجتهاد والمعرفة بمعاني كتاب الله، ولذا انتهت إليه الرياسة في الفتوى والتفسير، وكان عمر t يجلسه في مجلسه مع كبار الصحابة ويدنيه منه ، وكان يقول له : إنك لأصبح فتياننا وجهاً ، وأحسنهم خلقاً، وأفقههم في كتاب الله. وقال في شأنه : ذاكم فتى الكهول ؛ إن له لساناً سئولاً ، وقلباً عقولاً. وكان لفرط أدبه إذا سأله عمر مع الصحابة عن شيء يقول : لا أتكلم حتى يتكلموا. وكان عمر t يعتد برأي ابن عباس مع حداثة سنه؛ يدلنا على ذلك ما رواه ابن الأثير في كتابه " أسد الغابة " عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة قال :" إن عمر كان إذا جاءته الأقضية المعضلة قال لابن عباس : إنها قد طرأت علينا أقضية وعضل ، فأنت لها ولأمثالها ، فكان يأخذ بقوله، وما كان يدعو لذلك أحداً سواه" قال عبيد الله : وعمر هو عمر في حذقه واجتهاده لله وللمسلمين، وما رواه البخاري من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه وقال : لم يدخل هذا معنا وإن لنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه من أعلمكم ، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني فيهم إلا ليريهم، فقال ما تقولون في قوله تعالى :" إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم ولم يقل شيئاً ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا ، فقال ما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله r اعلمه الله له ، قال :" إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ "..، فذلك علامة أجلك " فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً " فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول " اهـ . وهذا يدل على قوة فهمه وجودة فكره. وقال فيه ابن مسعود t :" نعم ترجمان القرآن ابن عباس". وقال فيه عطاء " ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس، أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع". وقال عبيد الله ابن عبدالله بن عتبة : " كان ابن عباس قد فات الناس بخصال : بعلم ما سبقه وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم ونسب، وتأويل، وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله r منه ، ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه ، ولا أفقه في رأي منه ولا أثقب رأياً فيما احتيج إليه منه، ولقد كان يجلس يوماً ولا يذكر فيه إلا الفقه ، ويوماً التأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب، ولا رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علماً". وقيل لطاووس : لزمت هذا الغلام ـ يعني ابن عباس ـ وتركت الأكابر من أصحاب رسول الله r ، قال : إني رأيت سبعين رجلاً من أصحاب رسول الله r إذا تدارءوا في أمر صاروا إلى قول ابن عباس ". وروي الأعمش عن أبي وائل قال : " استخلف علي عبدالله ابن عباس على الموسم فقرأ في خطبته سورة البقرة ـ وفي رواية سورة النور ـ ففسرها تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا" وكان علي بن أبي طالب يثني على تفسير ابن عباس ويقول : " كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق".
وبالجملة ، فقد كانت حياة ابن عباس حياة علمية، يتعلم ويعلم، ولم يشتغل بالإمارة إلا قليلاً لما استعمله عليَّ على البصرة، والحق: أن ابن عباس قد ظهر فيه النبوغ العربي بأكمل معانيه. علماً، وفصاحة، وسعة اطلاع في نواح علمية مختلفة، لاسيما فهمه لكتاب الله تعالى. وخير ما يقال فيه ما قاله ابن عمر t :" ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد"(1).
***
ونستطيع أن نرجع هذه الشهرة العلمية؛ وهذا النبوغ الواسع الفياض، إلى أسباب نجملها فيما يلي :
أولاً : دعاء النبي r له بقوله : "اللهم علمه الكتاب والحكمة"، وفي رواية أخرى " اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل"؛ والذي يرجع إلى كتب التفسير بالمأثور ، يرى أثر هذه الدعوة النبوية، يتجلى واضحاً فيما صح عن ابن عباس t.
ثانياً : نشأته في بيت النبوة، وملازمته لرسول الله r من عهد التمييز؛ فكان يسمع منه الشيء الكثير، ويشهد كثيراً من الحوادث والظروف التي نزلت فيها بعض آيات القرآن.
ثالثاً : ملازمته لأكابر الصحابة بعد وفاة النبي r، يأخذ عنهم ويروي لهم، ويعرف منهم مواطن نزول القرآن، وتواريخ التشريع وأسباب النزول، وبهذا استعاض عما فاته من العلم بموت رسول الله r ، وتحدث بهذا ابن عباس عن نفسه فقال " وجدت عامة حديث رسول الله r عند الأنصار، فإن كنت لآتي الرجل فأجده نائماً ، لو شئت أن يوقظ لي لأوقظ؛ فأجلس على بابه تسفي على وجهي الريح حتى يستيقظ متى ما استيقظ، وأسأله عما أريد، ثم أنصرف".
رابعاً: حفظه للغة العربية، ومعرفته لغريبها، وآدابها، وخصائصها، وأساليبها؛ وكثيراً ما كان يستشهد للمعنى الذي يفهمه من لفظ القرآن بالبيت والأكثر من الشعر العربي.
خامساً : بلوغه مرتبة الاجتهاد، وعدم تحرجه منه، وشجاعته، في بيان ما يعتقد أنه الحق، دون أن يأبه لملامة لائم ونقد ناقد ، ما دام يثق بأن الحق في جانبه، وكثيراً ما انتقد عليه ابن عمر جرأته على تفسير القرآن، ولكن لم ترق إليه همة نقده، بل ما لبث أن رجع إلى قوله، واعترف بمبلغ علمه: فقد روي أن رجلاً أتى ابن عمر يسأله عن معنى قوله تعالى:" أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا"(2).. فقال: اذهب إلى ابن عباس ثم تعال أخبرني، فذهب فسأله فقال : كانت السموات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره فقال :قد كنت أقول : ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن. فالآن قد علمت أنه أوتي علماً.
هذه هي أهم الأسباب التي ترجع إليها شهرة ابن عباس في التفسير، يضاف إلى ذلك كونه من أهل بيت النبوة، منبع الهداية. ومصدر النور، وما وهبه الله من قريحة وقادة، وعقل راجح، ورأي صائب، وإيمان راسخ، ودين متين.
***
* قيمة ابن عباس في تفسير القرآن :
تتبين قيمة ابن عباس في التفسير، من قول تلميذه مجاهد : " إنه إذا فسر الشيء رأيت عليه النور" ، ومن قول علي t يثني عليه في تفسيره:" كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق"، ومن قول ابن عمر: "ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد"، ومن رجوع بعض الصحابة وكثير من التابعين إليه في فهم ما أشكل عليهم من كتاب الله، فكثيراً ما توجه إليه معاصروه ليزيل شكوكهم، ويكشف لهم عما عز عليهم فهمه من كتاب الله تعالى. ففي قصة موسى مع شعيب أشكل على بعض أهل العلم، أي الأجلين قضى موسى؟ هل كان ثمان سنين ؟ أو أنه أتم عشراً؟ ولما لم يقف على رأي يمم شطر ابن عباس ، الذي هو بحق ترجمان القرآن، ليسأله عما أشكل عليه، وفي هذا يروي الطبري في تفسيره، عن سعيد بن جبير قال : " قال يهودي بالكوفة ـ وأنا أتجهز للحج ـ إني أراك رجلاً تتبع العلم، فأخبرني أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا أعلم، وأنا الآن قادم على حبر العرب ـ يعني ابن عباس ـ فسائله عن ذلك، فلما قدمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك وأخبرته بقول اليهودي، فقال ابن عباس قضى أكثرهما وأطيبهما؛ إن النبي إذا وعد لم يخلف، وقال سعيد : فقدمت العراق فلقيت اليهودي فأخبرته فقال : صدق وما أنزل على موسى ، هذا والله العالم ا هـ(1).
وهذا عمر t يسأل الصحابة عن معنى آية من كتاب الله، فلما لم يجد عندهم جواباً مرضياً رجع إلى ابن عباس فسأله عنها ، وكان يثق بتفسيره، وفي هذا يروي الطبري:" أن عمر سأل الناس عن هذه الآية، يعني :" أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ " .. الآية(2).. فما وجد أحداً يشفيه، حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين.. إني أجد في نفسي منها شيئاً، فتلفت إليه فقال: تحول ههنا، لم تحقر نفسك ؟ قال : هذا مثل ضربه الله عز وجل فقال : أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فنى عمره واقترب أجله ، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فأفسده كله، فحرقه أحوج ما كان إليه" ا هـ(1).
وسؤال عمر له مع الصحابة عن تفسير قوله تعالى : " إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " وجوابه بالجواب المشهور عنه، يدل على أن ابن عباس كان يستخرج خفي المعاني التي يشير إليها القرآن، ولا يدركها إلا من نفحه الله بنفحة من روحه، وكثيراً ما ظهر ابن عباس في المسائل المعقدة في التفسير بمظهر الرجل الملهم الذي ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، كما وصفه علي t، الأمر الذي جعل الصحابة يقدرون ابن عباس ويثقون بتفسيره، ولقد وجد هذا التقدير صداه في عصر التابعين، فكانت هناك مدرسة يتلقى تلاميذها التفسير عن ابن عباس. استقرت هذه المدرسة بمكة، ثم غذت بعلمها الأمصار المختلفة، وما زال تفسير ابن عباس يلقي من المسلمين إعجاباً وتقديراً، إلى درجة أنه إذا صح النقل عن ابن عباس لا يكادون يعدلون عن قوله إلى قول آخر ،صرح الزركشي بأن قول ابن عباس مقدم على قول غيره من الصحابة عند تعارض ما جاء عنهم في التفسير(2).
***
* رجوع ابن عباس إلى أهل الكتاب :
كان ابن عباس كغيره من الصحابة الذين اشتهروا بالتفسير، يرجعون في فهم معاني القرآن إلى ما سمعوه من رسول الله r، وإلى ما يفتح الله به عليهم من طريق النظر والاجتهاد، مع الاستعانة في ذلك بمعرفة أسباب النزول والظروف والملابسات التي نزل فيها القرآن. وكان t يرجع إلى أهل الكتاب ويأخذ عنهم، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في كثير من المواضع التي أجملت في القرآن وفصلت في التوراة أو الإنجيل، ولكن كما قلنا فيما سبق إن الرجوع إلى أهل الكتاب كان في دائرة محدودة ضيقة، تتفق مع القرآن وتشهد له، أما ما عدا ذلك مما يتنافى مع القرآن، ولا يتفق مع الشريعة الإسلامية، فكان ابن عباس لا يقبله ولا يأخذ به.
***
2- عبدالله بن مسعود
هو عبدالله بن مسعود بن غافل، يصل نسبه إلى مضر، ويكنى بأبي عبدالرحمن الهذلي، وأمه أم عبد بنت عبدود، من هذيل، وكان ينسب إليها أحياناً فيقال ابن أم عبد. كان رحمه الله خفيف اللحم قصيراً، شديد الأدمة، أسلم قديماً. روى الأعمش، عن القاسم بن عبدالرحمن، عن أبيه قال :قال عبدالله ـ يعني ابن مسعود ـ" لقد رأيتني سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا" وهو أول من جهر بالقرآن بمكة وأسمعه قريشاَ بعد رسول الله r، وأوذي في الله من أجل ذلك، ولما أسلم عبدالله بن مسعود أخذه رسول الله r إليه فكان يخدمه في أكثر شئونه، وهو صاحب طهوره وسواكه ونعله، يلبسه إياه إذا قام، ويخلعه ويحمله في ذراعه إذا جلس ، ويمشي أمامه إذا سار، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلج عليه داره بلا حجاب، حتى لقد ظنه أبو موسى الأشعري t من أهل بيت رسول الله r ، ففي البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري t قال : " قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حيناً لا نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله r؛ لما نرى من كثرة دخوله ودخول أمه على رسول الله r ولزومه له". وهاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة ، وصلى إلى القبلتين
، وشهد بدراً ، وأحداً ، والخندق ، وبيعة الرضوان ، وسائر المشاهد مع رسول الله r ، وشهد اليرموك بعد وفاة رسول الله r. وهو الذي أجهز على أبي جهل يوم بدر، وقد شهد له رسول الله r بالجنة وشهد له بالفضل وعلو المنزلة؛ يدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن علي قال : قال رسول الله r : " لو كنت مؤمراً أحداً دون مشورة المؤمنين لأمرت ابن أم عبد". وقد ولي بيت المال بالكوفة لعمر وعثمان، وقدم المدينة في آخر عمره ، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع ليلاً ، تنفيذاً لوصيته بذلك ، وكان عمره يوم وفاته، بضعاً وستين سنة .
***
كان ابن مسعود من أحفظ الصحابة لكتاب الله، وكان رسول الله r يحب أن يسمع منه القرآن ، وقد أخبر هو بنفسه عن ذلك فقال : قال لي رسول الله r : اقرأ علي سورة النساء، قال : قلت: اقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه حتى بلغت :" فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً "(1)r. وكان رسول الله r يقول:" من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل ، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد". وكان ابن مسعود يعرف ذلك من نفسه ويعتز به ، حتى إنه كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف في عهد عثمان، وكان يرى أنه أولى منه بذلك، وقد قال في هذا :" يا معشر المسلمين .. أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر"؟ يريد زيد بن ثابت. وعن مسروق أنه قال :" انتهى علم أصحاب رسول الله r إلى ستة: عمر ، وعلي ، وعبدالله بن مسعود، وأبي بن كعب ، وأبي الدرداء، وزيد بن ثابت، ثم انتهى علو هؤلاء الستة إلى رجلين : علي ، وعبدالله" وقيل لحذيفة:أخبرنا برجل قريب السمت والدل والهدى من رسول الله r نأخذ عنه، فقال: " لا نعلم أحداً أقرب سمتاً ولا هدياً برسول الله r من ابن أم عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد r ، أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة". ولما سيره عمر t إلى الكوفة كتب إلى أهلها:" إني قد بعثت عمار بن ياسر أميراً ، وعبدالله بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله r من أهل بدر فاقتدوا بهما، وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبدالله على نفسي"... فاضت عيناه
وقد أقام t بالكوفة يأخذ عنه أهلها الحديث والتفسير والفقه، وهو معلمهم وقاضيهم ، ومؤسس طريقتهم في الاعتداد بالرأي حيث لا يوجد النص، ولما قدم على الكوفة، حضر عنده قوم وذكروا له بعض قول عبدالله وقالوا : يا أمير المؤمنين ما رأينا رجلاً أحسن خلقاً، ولا أرفق تعليماً، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعاً من ابن مسعود، قال علي :" أنشدكم الله أهو الصدق من قلوبكم "؟ قالوا : نعم، قال : " اللهم اشهد إني أقول مثل ما قالوا وأفضل".
ومن هذا كله يتبين لنا مكانة ابن مسعود t في العلم، ومنزلته بين إخوانه من الصحابة، فالكل يشهد له ويقدمه على غيره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده(2).
***
* قيمة ابن مسعود في التفسير :
روى ابن جرير وغيره عن ابن مسعود أنه قال :" كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"، ومن هذا الأثر يتضح لنا مقدار حرص ابن مسعود على تفهم كتاب الله تعالى والوقوف على معانيه ، وعن مسروق قال : " قال عبدالله ـ يعني ابن مسعود ـ والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناولته المطايا لأتيته"، وهذا الأثر يدل على إحاطة ابن مسعود بمعاني كتاب الله، وأسباب نزول الآيات، وحرصه على تعرف ما عند غيره من العلم بكتاب الله تعالى ولو لقى عنتاً ومشقة، وقال مسروق: كان عبدالله يقرأ علينا السورة ثم يحدثنا فيها ويفسرها عامة النهار، وروى أبو نعيم في الحلية عن أبي البحتري قال : قالوا لعلي: أخبرنا عن ابن مسعود، قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى بذلك علماً، وقال عقبة ابن عامر : ما أدري أحداً أعلم بما نزل على محمد من عبدالله، فقال أبو موسى: إن تقل ذلك، فإنه كان يسمع حين لا نسمع، ويدخل حين لا ندخل، وصح عن ابن مسعود أنه قال : أخذت من في رسول الله r سبعين سورة، وقال أبو وائل : لما حرق عثمان المصاحف بلغ ذلك عبدالله فقال: لقد علم أصحاب محمد إني أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم، ولو أني أعلم أن أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته، قال أبو وائل: فقمت إلى الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت أحداً من أصحاب محمد ينكر ذلك عليه… وغير هذا كثير من الآثار التي تشهد لمنزلة ابن مسعود العالية في التفسير، وإذا كان ابن مسعود يعلم هذا من نفسه ويتحدث به، فإن أصحاب رسول الله r لم ينكروا عليه ذلك، بل وتحدثوا بمكانته في العلم، ومقدار فهمه لكتاب الله، وعلل ذلك أبو موسى الأشعري t؛ بأنه كان يسمع حين لا يتيسر لهم السماع، ويدخل حين لا يؤذن لهم بالدخول، الأمر الذي جعله أوفر حظاً في الأخذ عن الرسول r، وأعظم نصيباً من الاغتراف من منهل النبوة الفياض ، ولئن صح عن أبي الدرداء أنه قال بعد موت ابن مسعود: ما ترك بعده مثله، لهي شهادة منه على مقدار علمه، وسمو مكانته بين أصحاب رسول الله r، وبالجملة فابن مسعود كما قيل: أعلم الصحابة بكتاب الله تعالى، وأعرفهم بمحكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه ، وقصصه وأمثاله ، وأسباب نزوله، قرأ القرآن فأحل حلاله وحرم حرامه، فقيه في الدين، عالم بالسنة، بصير بكتاب الله.
***
* الرواية عن ابن مسعود ومبلغها من الصحة :
ابن مسعود أكثر من روى عنه في التفسير من الصحابة بعد ابن عباسt ، قال السيوطي في الإتقان : وأما ابن مسعود فقد روى عنه أكثر مما روي عن علي(1)، وقد حمل علم ابن مسعود في التفسير أهل الكوفة نظراً لوجوده بينهم، يجلس إليهم فيأخذون عنه ويروون له، فمن رواته مسروق بن الأجدع الهمداني، وعلقمة بن قيس النخعي ، والأسود ابن يزيد، وغيرهم من علماء الكوفة الذين تتلمذوا له ورووا عنه. وسيأتي الكلام على هؤلاء جميعاً ـ إن شاء الله تعالى ـ عند الكلام عن التفسير في عصر التابعين، وقد وردت أسانيد كثيرة تنتهي إلى ابن مسعود، نجدها مبثوثة في كتب التفسير بالمأثور وكتب الحديث ، ومن هذه الروايات ما يمكن الاعتماد عليه والثقة به ، ومنها ما يعتريه الضعف في رجاله، أو الانقطاع في إسناده،وقد تتبع العلماء النقاد هذه الروايات ، كما تتبعوا غيرها بالنقد تجريحاً وتعديلاً وهذه هي أشهر الطرق عن ابن مسعود.
أولاً : طريق الأعمش ، عن أبي الضحى، عن مسروق ، عن ابن مسعود . وهذه الطريق من أصح الطرق وأسلمها ، وقد اعتمد عليها البخاري في صحيحه.
ثانياُ : طريق مجاهد، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود ، وهذه أيضاً طريق صحيحة لا يعتريها الضعف. وقد اعتمد عليها البخاري في صحيحه أيضاً.
ثالثاً : طريق الأعمش ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، وهذه أيضاً طريق صحيحة يخرج البخاري منها ، وكفى بتخريج البخاري شاهداً على صحتها وصحة ما سبق.
رابعاً : طريق السدي الكبير ، عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود . وهذه الطريق يخرج منها الحاكم في مستدركه، ويصحح ما يخرجه. وابن جرير يخرج منها في تفسيره كثيراً ، وقد علمت فيما مضى قيمة السدي الكبير في باب الرواية.
خامساً : طريق أبي روق ، عن الضحاك، عن ابن مسعود. وابن جرير يخرج منها في تفسيره أيضاً. وهذه الطريق غير مرضية؛ لأن الضحاك لم يلق ابن مسعود فهي طريق منقطعة.
***
3- علي بن أبي طالب
هو أبو الحسن، علي بن أبي طالب، بن عبد المطلب، القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله r، وصهره على ابنته فاطمة، وذريته r منهما. أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم. وهو أول هاشمي ولد من هاشميين، ورابع الخلفاء الراشدين، وأول خليفة من بني هاشم، وهو أول من أسلم من الأحداث وصدق برسول الله r . هاجر إلى المدينة. وموقفه من الهجرة مشهور، قيل ونزل فيه قوله تعالى:" وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ "(1)r خلفه على أهله، وله في الجميع بلاء عظيم ومواقف مشهورة، وقد أعطاه الرسول r اللواء في مواطن كثيرة ، وقال يوم خيبر :" لأعطين الراية رجلاً يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله"، ثم أعطاها لعلي t ، وأخاه رسول الله r لما آخى بين أصحابه وقال له :" أنت أخي في الدنيا والآخرة " وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، اجتمع فيه من الفضائل ما لم يحظ به غيره، فمن ورع في الدين، إلى زهد في الدنيا ، إلى قرابة وصهر برسول الله r ، إلى علم جم وفضل غزير ، وقد توفى رحمه الله في رمضان سنة أربعين من الهجرة ، مقتولاً بيد عبدالرحمن بن ملجم الخارجي ، وعمره ثلاث وستون سنة ، وقيل غير ذلك... وقد شهد عليّ المشاهد كلها إلا تبوك؛ فإن رسول الله
***
كان t بحراً في العلم ، وكان قوي الحجة ، سليم الاستنباط ، أوتي الحظ الأوفر من الفصاحة والخطابة والشعر، وكان ذا عقل قضائي ناضج ، وبصيرة إلى بواطن الأمور ، وكثيراً ما كان يرجع إليه الصحابة في فهم ما خفي واستجلاء ما أشكل، وقد ولاه رسول الله r قضاء اليمن ، ودعا له بقوله : " اللهم ثبت لسانه واهد قلبه " فكان موفقاً ومسدداً، فيصلاً في المعضلات، حتى ضرب به المثل فقيل:" قضية ولا أبا الحسن لها"، ولا عجب، فقد تربى في بيت النبوة، وتغذى بلبان معارفها، وعمته مشكاة أنوارها. روى علقمة عن ابن مسعود قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب . وقيل لعطاء : أكان في أصحاب محمد أعلم من علي ؟ قال : لا، والله لا أعلمه، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :" إذا ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل عنه إلى غيره".
والذي يرجع إلى أقضية علي t وخطبه ووصاياه، يرى أنه قد وهب عقلاً ناضجاً ، وبصيرة نافذة، وحظاً وافراً من العلم وقوة البيان (1).
***
جمع علي t إلى مهارته في القضاء والفتوى، علمه بكتاب الله ، وفهمه لأسراره وخفي معانيه، فكان أعلم الصحابة بمواقع التنزيل ومعرفة التأويل، وقد روى عن ابن عباس أنه قال :" ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب"، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي t أنه قال : " والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت، وإن ربي وهب لي قلباً عقولاً، ولساناً سئولاً". وعن أبي الطفيل قال : " شهدت علياً يخطب وهو يقول : سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلا وأنا اعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل، أم في جبل". وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود قال :" إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف، إلا وله ظهر وبطن، وإن علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن". وغير هذا كثير من الآثار التي تشهد له بأنه كان صدر المفسرين والمؤيد فيهم.
***
* الرواية عن علي ومبلغها من الصحة :
كثرت الرواية في التفسير عن علي t ، كثرة جاوزت الحد ، الأمر الذي لفت أنظار العلماء النقاد، وجعلهم يتتبعون الرواية عنه ، بالبحث، والتحقيق؛ ليميزوا ما صح من غيره.
وما صح عن علي في التفسير قليل بالنسبة لما وضع عليه، ويرجع ذلك إلى غلاة الشيعة، الذين أسرفوا في حبه فاختلقوا عليه ما هو برئ منه، إما ترويجاً لمذهبهم وتدعيماً له ، وإما لظنهم الفاسد، أن الإغراق في نسبة الأقوال العلمية إليه يعلي من قدره، ويرفع من شأنه العلمي. وأظن أن ما نسب إلى علي من قوله : " لو شئت أو أوقر سبعين بعيراً من تفسير أم القرآن لفعلت" لا أصل له ، اللهم إلا في أوهام الشيعة، الذين يغالون في حبه، ويتجاوزون الحد في مدحه. ثم هناك ناحية أخرى أغرت الوضاع بالكذب عليه، تلك الناحية هي نسبته إلى بيت النبوة، ولا شك أن هذه الناحية، تكسب الموضوع قبولاً، وتعطيه رواجاً وذيوعاً على ألسن الناس والحق أن كثرة الوضع على علي t أفسدت الكثير من علمه، ومن أجل ذلك لم يعتمد أصحاب الصحيح فيما يرونه عنه إلا على ما كان من طريق الإثبات من أهل بيته ، أو من أصحاب ابن مسعود ، كعبيدة السلماني وشريح، وغيرهما. وهذه أهم الطرق عن علي في التفسير :
أولاً : طريق هشام ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، عن علي . طريق صحيحة، يخرج منها البخاري وغيره.
ثانياً : طريق ابن أبي الحسين ، عن أبي الطفيل ، عن علي . وهذه طريق صحيحة، يخرج منها ابن عيينة في تفسيره.
ثالثاً : طريق الزهري ، عن علي زين العابدين، عن أبيه الحسين ، عن أبيه علي . وهذه طريق صحيحة جداً ، حتى عدها بعضهم أصح الأسانيد مطلقاً(1)، ولكن لم تشتهر هذه الطريق اشتهار الطريقتين السابقتين نظراً لما ألصقه الضعفاء والكذابون بزين العابدين من الروايات الباطلة.
***
4- أبي بن كعب
هو أبو المنذر، أو أبو الطفيل(2)r مقدمه المدينة، وقد أثنى عليه عمرt فقال :" أبي سيد المسلمين" وقد اختلف في وفاته على أقوال كثيرة، والأكثر على أنه مات في خلافة عمر بن الخطاب t.، أبي بن كعب بن قيس، الأنصاري الخزرجي، شهد العقبة وبدراً، وهو أول من كتب لرسول الله
***
كان أبي بن كعب سيد القراء، واحد كتاب الوحي لرسول r ، وقد قال فيه r :" وأقرؤهم أبي بن كعب"، وليس أدل على جودة حفظه لكتاب الله تعالى من قراءة النبي r عليه، فقد أخرج الترمذي بسنده إلى أنس بن مالك t أنه قال : " إن النبي r قال لأبي بن كعب : إن الله أمرني أن أقرأ عليك :" لم يكن الذين كفروا " قال آلله سماني لك ؟ قال : نعم ، فجعل أبي يبكى" وفي رواية أنه قيل لأبي : وفرحت بذلك ؟ قال: وما يمنعني وهو يقول :" قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ "(3)r ستة : عمر، وعلي ، وعبدالله ، وأبي، وزيد، وأبو موسى "(4)... وروى الشعبي عن مسروق قال :" كان أصحاب القضاء من أصحاب رسول الله
***
كان أبي بن كعب من أعلم الصحابة بكتاب الله تعالى، ولعل من أهم عوامل معرفته بمعاني كتاب الله، هو أنه كان حبراً من أحبار اليهود، العارفين بأسرار الكتب القديمة وما ورد فيها، وكونه من كتاب الوحي لرسول الله r، وهذا بالضرورة يجعله على مبلغ عظيم من العلم بأسباب النزول ومواضعه، ومقدم القرآن ومؤخره، وناسخه ومنسوخه، ثم لا يعقل بعد ذلك أن تمر عليه آية من القرآن يشكل معناها عليه دون أن يسأل عنها رسول الله r، لهذا كله عُد أبي بن كعب من المكثرين في التفسير، الذين يعتد بما صح عنهم، ويعول على تفسيرهم.
***
* الرواية عنه في التفسير ومبلغها من الصحة :
كثرت الرواية عن أبي بن كعب في التفسير وتعددت طرقها، وتتبع العلماء هذه الطرق بالنقد، فعدلوا وجرحوا؛ لأنه كغيره من الصحابة لم يسلم من الوضع عليه ـ وهذه هي أشهر الطرق عنه.
أولاً : طريق أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي t. وهذه طريق صحيحة، وقد ورد عن أبي ، نسخة كبيرة في التفسير ، يرويها أبو جعفر الرازي بهذا الإسناد إلى أبي ، وقد خرج ابن جرير وابن حاتم منها كثيراً ، وأخرج الحاكم منها أيضاً في مستدركه، والإمام أحمد في مسنده.
ثانياً : طريق وكيع عن سفيان ، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه، وهذه يخرج منها الإمام أحمد في مسنده، وهي على شرط الحسن؛ لأن عبدالله بن محمد بن عقيل وإن كان صدوقاً تكلم فيه من جهة حفظه، قال الترمذي في سننه :" عبدالله بن محمد بن عقيل ، هو صدوق وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه ، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : كان أحمد بن حنبل ، وإسحق بن إبراهيم، والحميدي، يحتجون بحديث عبدالله بن محمد بن عقيل قال محمد ـ يعني البخاري ـ وهو مقارب الحديث ، ونص الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد على أن حديثه حسن " (1).
***
قيمة التفسير المأثور عن الصحابة
أطلق الحاكم في المستدرك : أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي ، له حكم المرفوع، فكأنه رواه عن النبي r ، وعزا هذا القول للشيخين حيث يقول في المستدرك:" ليعلم طالب الحديث ، أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل ـ عند الشيخين ـ حديث مسند"(1)ص (24) " ما قيل من أن تفسير الصحابي حديث مسند ، فإنما ذلك في تفسير يتعلق بسبب نزول آية يخبر به الصحابي ، أو نحو ذلك مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبي r ولا مدخل للرأي فيه، كقول جابر t : كانت اليهود تقول : من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول ، فأنزل الله عز وجل : " نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ"(2)r فمعدودة في الموقوفات " ولكنا نجد الحاكم نفسه قد صرح في " معرفة علوم الحديث" بما ذهب إليه ابن الصلاح وغيره حيث قال :" ومن الموقوفات ما حدثناه أحمد بن كاعل بسنده عن أبي هريرة في قوله : " لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ "(3)… "، ثم أورد حديث جابر في قصة اليهود وقال : فهذا وأشباهه مسند ليس بموقوف؛ فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فإنه حديث مسند .. ا هـ(4)... قال : تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحة فلا تترك لحماً على عظم، قال : فهذا وأشباهه يعد في تفسير الصحابة من الموقوفات، فأما ما نقول : عن تفسير الصحابة مسند ، فإنما نقوله في غير الموقوفات ، فأما ما نقول : إن تفسير الصحابة مسند ، فإنما نقوله في غير هذا النوع.. الآية ، فأما سائر تفاسير الصحابة التي لا تشتمل على إضافة شيء إلى الرسول ولكن قيد ابن الصلاح ، والنووي، وغيرهما، هذا الإطلاق، بما يرجع إلى أسباب النزول ، وما لا مجال للرأي فيه ، قال ابن الصلاح في مقدمته
فالحاكم قيد في معرفة علوم الحديث ما أطلق في المستدرك، فاعتمد الناس ما قيد ، وتركوا ما أطلق، وعلل السيوطي في التدريب إطلاق الحاكم بأنه كان حريصاً على جمع الصحيح في المستدرك حتى أورد فيه ما ليس من شرط المرفوع.. ، ثم اعترض بعد ذلك على الحاكم، حيث عد الحديث المذكور عن أبي هريرة من الموقوف، وليس كذلك؛ لأنه يتعلق بذكر الآخرة، وهذا لا مدخل للرأي فيه ، فهو من قبيل المرفوع(5).
وبعد هذا كله نخلص بهذه النتائج :
أولاً : تفسير الصحابي له حكم المرفوع، إذا كان مما يرجع إلى أسباب النزول، وكل ما ليس للرأي فيه مجال ، أما ما يكون للرأي فيه مجال ، فهو موقوف عليه ما دام لم يسنده إلى رسول الله r.
ثانياً : ما حكم عليه بأنه من قبيل المرفوع لا يجوز رده اتفاقاً ، بل يأخذه المفسر ولا يعدل عنه إلى غيره بأية حال.
ثالثاً : ما حكم عليه بالوقف، تختلف فيه أنظار العلماء :
فذهب فريق : إلى أن الموقوف على الصحابي من التفسير لا يجب الأخذ به لأنه لما لم يرفعه ، علم أنه اجتهد فيه ، والمجتهد يخطئ ويصيب، والصحابة في اجتهادهم كسائر المجتهدين.
وذهب فريق آخر إلى أنه يجب الأخذ به والرجوع إليه؛ لظن سماعهم له من رسول الله r ، ولأنهم إن فسروا برأيهم فرأيهم أصوب، لأنهم أدرى الناس بكتاب الله ؛ إذ هم أهل اللسان، ولبركة الصحبة والتخلق بأخلاق النبوة ، ولما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام والعمل الصحيح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة، وعبدالله بن مسعود ، وابن عباس وغيرهم.
قال الزركشي في البرهان :" اعلم أن القرآن قسمان : قسم ورد تفسيره بالنقل، وقسم لم يرد. والأول:إما أن يرد عن النبي r، أو الصحابة ، أو رؤوس التابعين، فالأول يبحث فيه عن صحة السند، والثاني ينظر في تفسير الصحابي، فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتماده، أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه ... ا هـ(1).
وقال الحافظ ابن كثير في مقدمة تفسيره: " … وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة، والخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهدين، وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم"(2).
وهذا الرأي الأخير الذي تميل إليه النفس، ويطمئن إليه القلب لما ذكر.
***
مميزات التفسير في هذه المرحلة
يمتاز التفسير في هذه المرحلة بالمميزات الآتية :
أولاً : لم يفسر القرآن جميعه، وإنما فسر بعض منه، وهو ما غمض فهمه وهذا الغموض كان يزداد كلما بعد الناس عن عصر النبي r والصحابة، فكان التفسير يتزايد تبعاً لتزايد هذا الغموض، إلى أن تم تفسير آيات القرآن جميعها.
ثانياً:قلة الاختلاف بينهم في فهم معانيه، وسنعرض لهذا الموضوع بتوسع فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ثالثاً : كانوا كثيراً ما يكتفون بالمعنى الإجمالي ، ولا يلزمون أنفسهم بتفهم معانيه تفصيلاً ، فيكفي أن يفهموا من مثل قوله تعالى : " وَفَاكِهَةً وَأَبّاً "(1).. أنه تعداد لنعم الله تعالى على عباده.
رابعاً : الاقتصار على توضيح المعنى اللغوي الذي فهموه بأخصر لفظ، مثل قولهم " غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ "(2).. أي غير متعرض لمعصية، فإن زادوا على ذلك فمما عرفوه من أسباب النزول.
خامساً : ندرة الاستنباط العلمي للأحكام الفقهية من الآيات القرآنية وعدم وجود الانتصار للمذاهب الدينية بما جاء في كتاب الله: نظراً لاتحادهم في العقيدة ، ولأن الاختلاف المذهبي لم يقم إلا بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم.
سادساً : لم يدون شيء من التفسير في هذا العصر؛ لأن التدوين لم يكن إلا في القرن الثاني . نعم أثبت بعض الصحابة بعض التفسير في مصاحفهم فظنها بعض المتأخرين من وجوه القرآن التي نزل بها من عند الله تعالى.
سابعاً:اتخذ التفسير في هذه المرحلة شكل الحديث، بل كان جزءاً منه وفرعاً من فروعه، ولم يتخذ التفسير له شكلاً منظماً، بل كانت هذه التفسيرات تروى منثورة لآيات متفرقة، كما كان الشأن في رواية الحديث، فحديث صلاة بجانب حديث جهاد، بجانب حديث ميراث، بجانب حديث في تفسير آية،... وهكذا.
وليس لمعترض أن يعترض علينا بتفسير ابن عباس، فإنه لا تصح نسبته إليه، بل جمعه الفيروزابادي ونسبة إليه ، معتمداً في ذلك على رواية واهية، هي رواية محمد بن مروان السدي ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس وهذه هي سلسلة الكذب كما قيل.
***
المرحلة الثانية للتفسير
أو التفسير في عصر التابعين
· ابتداء هذه المرحلة ـ مصادر التفسير في هذا العصر ـ مدارس التفسير التي قامت فيه.
· قيمة التفسير المأثور عن التابعين.
· مميزات التفسير في هذه المرحلة .
· الخلاف بين السلف في التفسير.
التفسير في عصر التابعين
تنتهي المرحلة الأولى للتفسير بانصرام عهد الصحابة، وتبدأ المرحلة الثانية للتفسير من عصر التابعين الذين تتلمذوا للصحابة فتلقوا غالب معلوماتهم عنهم.
وكما اشتهر بعض أعلام الصحابة بالتفسير والرجوع إليهم في استجلاء بعض ما خفي من كتاب الله، اشتهر أيضاً بالتفسير أعلام من التابعين، تكلموا في التفسير، ووضحوا لمعاصريهم خفي معانيه.
***
* مصادر التفسير في هذا العصر :
وقد اعتمد هؤلاء المفسرون في فهمهم لكتاب الله تعالى على ما جاء في الكتاب نفسه، وعلى ما رووه عن الصحابة عن رسول الله r وعلى ما رووه عن الصحابة من تفسيرهم أنفسهم، وعلى ما أخذوه من أهل الكتاب مما جاء في كتبهم ، وعلى ما يفتح الله به عليهم من طريق الاجتهاد والنظر في كتاب الله تعالى.
وقد روت لنا كتب التفسير كثيراً من أقوال هؤلاء التابعين في التفسير، قالوها بطريق الرأي والاجتهاد، ولم يصل إلى علمهم شيء فيها عن رسول الله r، أو عن أحد من الصحابة.
وقد قلنا فيما سبق : إن ما نقل عن الرسول r وعن الصحابة من التفسير لم يتناول جميع آيات القرآن، وإنما فسروا ما غمض فهمه على معاصريهم ، ثم تزايد هذا الغموض ـ على تدرج ـ كلما بعد الناس عن عصر النبي r والصحابة ، فاحتاج المشتغلون بالتفسير من التابعين إلى أن يكملوا بعض هذا النقص، فزادوا في التفسير بمقدار ما زاد من غموض، ثم جاء من بعدهم فأتموا تفسير القرآن تباعاً، معتمدين على ما عرفوه من لغة العرب ومناحيهم في القول ، وعلى ما صح لديهم من الأحداث التي حدثت في عصر النزول القرآن ، وغير هذا من أدوات الفهم ووسائل البحث.
***
* مدارس التفسير في عصر التابعين :
فتح الله على المسلمين كثيراً من بلاد العالم في حياة رسول الله r ، وفي عهود الخلفاء من بعده، ولم يستقروا جميعاً في بلد واحد من بلاد المسلمين، بل نأى الكثير منهم عن المدينة مشرق النور الإسلامي ثم استقر بهم النوى، موزعين على جميع البلاد التي دخلها الإسلام، وكان منهم الولاة، ومنهم الوزراء، ومنهم القضاة ، ومنهم المعلمون، ومنهم غير ذلك.
وقد حمل هؤلاء معهم إلى هذه البلاد التي رحلوا إليها ، ما وعوه من العلم، وما حفظوه عن رسول الله r، فجلس إليهم كثير من التابعين يأخذون العلم عنهم ، وينقلونه لمن بعدهم ، فقامت في هذه الأمصار المختلفة مدارس علمية ، أساتذتها الصحابة ، وتلاميذها التابعون.
واشتهر بعض هذه المدارس بالتفسير، وتتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسرين من الصحابة، فقامت مدرسة للتفسير بمكة، وأخرى بالمدينة وثالثة بالعراق، وهذه المدارس الثلاث ، هي أشهر مدارس التفسير في الأمصار في هذا العهد.
قال ابن تيميه :" وأما التفسير فأعلم الناس به أهل مكة ، لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد ، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس ، كطاووس ، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير ، وأمثالهم . وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به عن غيرهم، وعلماء أهل المدينة في التفسير ، مثل زيد بن أسلم، الذي أخذ عنه مالك التفسير ، وأخذ عنه أيضاً ابنه عبدالرحمن، وعبدالله ابن وهب" ا هـ(1).
وأرى أن أتكلم عن كل مدرسة من هذه المدارس الثلاث، وعن أشهر المفسرين من التابعين الذين أخذوا التفسير عن أساتذة هذه المدارس من الصحابة ، فأقول وبالله التوفيق.
أولاً : مدرسة التفسير بمكة
قامت مدرسة التفسير بمكة على عبدالله بن عباس t، فكان يجلس لأصحابه من التابعين، يفسر لهم كتاب الله تعالى ، ويوضح لهم ما أشكل من معانيه ، وكان تلاميذه يعون عنه ما يقول ، ويروون لمن بعدهم ما سمعوه منه.
***
وقد اشتهر من تلاميذ ابن عباس بمكة : سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة مولى ابن عباس ، وطاووس بن كيسان اليماني ، وعطاء بن أبي رباح.
ثانياً : مدرسة التفسير بالمدينة
* قيامها على أبي بن كعب :
كان بالمدينة كثير من الصحابة، أقاموا بها ولم يتحولوا عنها كما تحول كثير منهم إلى غيرها من بلاد المسلمين، فجلسوا لأتباعهم يعلمونهم كتاب الله تعالى وسنة رسوله r، فقامت بالمدينة مدرسة للتفسير، تتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسرين من الصحابة . ونستطيع أن نقول : إن قيام هذه المدرسة كان على أبي بن كعب، الذي يعتبر بحق أشهر من تتلمذ له مفسرو التابعين بالمدينة؛ وذلك لشهرته أكثر من غيره في التفسير، وكثرة ما نقل لنا عنه في ذلك.
***
وقد وجد بالمدينة في هذا الوقت كثير من التابعين المعروفين بالتفسير ، اشتهر من بينهم ثلاثة ، هم زيد بن أسلم ، وأبو العالية ، ومحمد بن كعب القرظي. وهؤلاء منهم من أخذ عن أبيَّ مباشرة، ومنهم من أخذ عنه بالواسطة.
قيمة التفسير المأثور عن التابعين
اختلف العلماء في الرجوع إلى تفسير التابعين والأخذ بأقوالهم إذا لم يؤثر في ذلك شيء عن الرسول r ، أو الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
فنقل عن الإمام أحمد t روايتان في ذلك : رواية بالقبول ورواية بعد القبول ، وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يؤخذ بتفسير التابعي ، واختاره ابن عقيل ، وحكى عن شعبة. واستدل أصحاب هذا الرأي على ما ذهبوا إليه: بأن التابعين ليس لهم سماع من الرسول r ، فلا يمكن الحمل عليه كما قيل في تفسير الصحابي: إنه محمول على سماعه من النبي r. وبأنهم لم يشاهدوا القرائن والأحوال التي نزل عليها القرآن ، فيجوز عليهم الخطأ في فهم المراد وظن ما ليس بدليل دليلاً، ومع ذلك فعدالة التابعين غير منصوص عليها كما نص على عدالة الصحابة . نقل عن أبي حنيفة أنه قال: ما جاء عن رسول الله r فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة تخيرنا، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال.
وقد ذهب أكثر المفسرين : إلى أنه يؤخذ بقول التابعي في التفسير ، لأن التابعين تلقوا غالب تفسيراتهم عن الصحابة، فمجاهد مثلاً يقول : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها . وقتادة يقول: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئاً؛ ولذا حكى أكثر المفسرين أقوال التابعين في كتبهم ونقلوها عنهم مع اعتمادهم لها.
والذي تميل إليه النفس : هو أن قول التابعي في التفسير لا يجب الأخذ به إلا إذا كان مما لا مجال للرأي فيه، فإنه يؤخذ به حينئذ عند عدم الريبة، فإن ارتبنا فيه، بأن كان يأخذ من أهل الكتاب ، فلنا أن نترك قوله ولا نعتمد عليه، أما إذا أجمع التابعون على رأي فإنه يجب علينا أن نأخذ به ولا نتعداه إلى غيره.
قال ابن تيميه : قال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح،أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم،ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة ، أو عموم لغة العرب،أو أقوال الصحابة في ذلك(1).
***
مميزات التفسير في هذه المرحلة
يمتاز التفسير في هذه المرحلة بالمميزات الآتية :
أولاً : دخل في التفسير كثير من الإسرائيليات والنصرانيات، وذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام، وكان لا يزال عالقاً بأذهانهم من الأخبار ما لا يتصل بالأحكام الشرعية ، كأخبار بدء الخليقة، وأسرار الوجود، وبدء الكائنات. وكثير من القصص. وكانت النفوس ميالة لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية، فتساهل التابعون فزجوا في التفسير بكثير من الإسرائيليات والنصرانيات بدون تحر ونقد. وأكثر من روى عنه في ذلك من مسلمي أهل الكتاب : عبدالله بن سلام ، وكعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وعبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج. ولا شك أن الرجوع إلى هذه الإسرائيليات في التفسير أمر مأخوذ على التابعين كما هو مأخوذ على من جاء بعدهم(1).
وسنأتي نعرض لهذه الناحية عرضاً موسعاً عند الكلام عن أسباب الضعف في رواية التفسير المأثور إن شاء الله تعالى.
ثانياً : ظل التفسير محتفظاً بطابع التلقي والرواية(2)r وأصحابه ، بل كان تلقياً ورواية يغلب عليهما طابع الاختصاص ، فأهل كل مصر يعنون ـ بوجه خاص ـ بالتلقي والرواية عن إمام مصرهم ، فالمكيون عن ابن عباس ، والمدنيون عن أبيَّ ، والعراقيون عن ابن مسعود. وهكذا.، إلا أنه لن يكن تلقياً ورواية بالمعنى الشامل كما هو الشأن في عصر النبي
ثالثاً : ظهرت في هذا العصر نواة الخلاف المذهبي، فظهرت بعض تفسيرات تحمل في طياتها هذه المذاهب ، فنجد مثلاً قتادة بن دعامة السدوسي ينسب إلى الخوض في القضاء والقدر ويتهم بأنه قدري، ولا شك أن هذا أثر على تفسيره، ولهذا كان يتحرج بعض الناس من الرواية عنه. ونجد الحسن البصري قد فسر القرآن على إثبات القدر، ويكفر من يكذب به كما ذكرنا ذلك في ترجمته.
رابعاً : كثرة الخلاف بين التابعين في التفسير عما كان بين الصحابة رضوان الله عليهم ، وإن كان اختلافاً قليلاً بالنسبة لما وقع بعد ذلك من متأخري المفسرين.
***
فهرس الكتاب
الفرق بين التفسير والتأويل 7
تفسير القرآن بغير لغته 10
الترجمة الحرفية للقرآن 10
الترجمة الحرفية ليست تفسيراً للقرآن 12
الترجمة التفسيرية للقرآن 12
الفرق بين التفسير والترجمة التفسيرية 13
شروط الترجمة التفسيرية 14
هل تفسير القرآن من قبيل التصورات 15
فهم النبي r والصحابة للقرآن 17
تفاوت الصحابة في فهم القرآن 18
مصادر التفسير في هذا العصر 21
المصدر الأول – القرآن الكريم 21
المصدر الثاني – النبي r 26
الوضع على رسول الله r في التفسير 27
هل تناول النبي r القرآن كله بالبيان 29
المقدار الذي بينه الرسول r في القرآن لأصحابه 29
أدلة من قال بأن النبي rبين كل معاني القرآن 29
أدلة من قال بأن النبيr لم يبين لأصحابه إلا القليل 30
مناقشة أدلة الفريق الأول 30
مناقشة أدلة الفريق الثاني 31
أوجه بيان السنة للكتاب 33
المصدر الثالث من مصادر التفسير في عهد الصحابة
الاجتهاد وقوة الاستنباط 35
أدوات الاجتهاد في التفسير عن الصحابة 35
تفاوت الصحابة في فهم معاني القرآن 36
المصدر الرابع من مصادر التفسير في هذا العصر
أهل الكتاب من اليهود والنصارى 37
أهمية هذا المصدر بالنسبة للمصادر السابقة 38
قيمة التفسير المأثور عن الصحابة 53
مميزات التفسير في هذه المرحلة 55
التفسير في عصر التابعين 57
التفسير في عصر التابعين 58
مدارس التفسير في عصر التابعين 59
أولاً – مدرسة التفسير بمكة 59
ثانياً – مدرسة التفسير بالمدينة 60
قيمة التفسير المأثور عن التابعين 60
مميزات التفسير في هذه المرحلة 61
(2) لخصنا هذا الموضوع من " الإكليل في المتشابه والتأويل" للعلامة ابن تيمية ج 2 ص 15-17 من مجموعة الرسائل الكبرى له. وانظر مقالته في القاعدة الخامسة من جواب المسألة التدبيرية.
(4) التفسير معالم حياته – منهجه اليوم ص 6
(1) مقدمة التفسير للراغب ص 402-403 يآخر كتاب تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار
(4) تفسير البغوي جـ 1 ص18
(1) المراجع : المدخل المنير ص 41 – إلى النهاية، ومجلة نور الإسلام (الأزهر) السنة الثالثة ص 57 – 65، ومنهج الفرقان جـ 2 ص 71 -90 .
(3) انظر الؤلؤ المنظوم في مبادئ العلوم ص 160 -161
(5) الموافقات جـ 2 ص 87 – 88. والتامك: السنام. والقرد: الذي تجعد شعره، فكان كأنه وقاية للسنام. والنبع: شجر للقسي والسهام والسفن: كل ما ينحت به غيره.
(2) انظر ما كتبه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده عن قصة عمر في سؤاله عن معنى الأب في سورة عم من تفسيره لجزء عم ص 21.
(4) الحديث عند البخاري في باب التفسير جـ 8 ص 127 من فتح الباري.
(5) مذكرة تاريخ التشريع الإسلامي لكلية الشريعة ص 84.
(6) التفسير – معالم حياته – منهجه اليوم ص 6 ، نقلاً عن المسائل والأجوبة لابن قتيبه ص 8.
(1) مقدمة ابن خلدون ص 489.
(1) مسلم الثبوت وشرحه جـ 1 ص 361.
(2) جمع الجوامع وشرحه جـ 2 ص 54 والمستصفى جـ 2 ص 185.
(5) نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي جـ 1 ص 163.
(1) المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن جـ 1 ص 1.
(3) تفسير القرطبي جـ 1 ص 37.
(5) الاتقان جـ 2 ص191 - 205
(7) فجر الإسلام ص 425، وقد حقق الحافظ ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية " زين للناس حب الشهوات" .. الخ أنه لم يصح عن رسول الله r حديث في تحديد القنطار، وما ورد من ذلك فموقوف على بعض الصحابة.
(2) ضحى الإسلام جـ 2 ص 141
(1) انظر مقالته في مقدمته في أصول التفسير ص 5
(2) انظر ما نقله السيوطي عن الخوبي في الاتقان جـ 2 ص 174 وما ارتضاه السيوطي في الاتقان جـ 2 ص 179.
(3) هو عبدالله بن حبيب التابعي المقري المتوفى سنة 72 هـ وهو غير أبي عبدالرحمن السلمي الصوفي المتوفى سنة 412 هـ
(1) استخلصنا هذه الأدلة من مقدمة أصول التفسير لابن تيمية ص 5 – 6 ومن الاتفاق جـ 2 ص 205.
(2) القرطبي جـ 2 ص 31، ورواية الطبري في تفسيره جـ1 ص 21 " .... إلا أيا تعد" وفي ضحى الإسلام جـ 2 ص 138 بلفظ " ... إلا آيا تعد"..
(3) انظر ما نقله السيوطي في الاتقان عن الخوبي جـ 2 ص 174.
(4) انظر القرطبي جـ1 ص 33.
(1) البحر المحيط جـ1 ص 13.
(3) وما نقله القرطبي في تفسيره جـ 1 ص 31.
(1) تفسير ابن جرير جـ 1 ص 25.
(1) القرطبي جـ1 ص 37 – 38.
(2) انظر القرطبي جـ 1 ص 37 -38
(4) المرجع السابق جـ 1 ص 39.
(1) المرجع نفسه جـ 1 ص 39.
(1) منهج الفرقان جـ 1 ص 36.
(2) المرجع السابق نفس الصفحة.
(4) البخاري ف الجهاد جـ 4 ص 69.
(3) فجر الإسلام ص 243 – 244.
(5) الموافقات جـ 3 ص 384.
(8) البخاري في باب التفسير جـ 8 ص 519 من فتح الباري.
(1) انظر أسد الغابة جـ 3 ص 192 – 195.
(1) تفسير ابن جرير جـ 20 ص 43.
(1) تفسير ابن جرير جـ 3 ص 47.
(2) انظر ترجمة ابن مسعود في أسد الغابة جـ 3 ص 256 – 260.
(1) أسد الغابة جـ 4 ص 16 – 40.
(2) كناه النبي بالأولى ، وعمر بالثانية.
(4) انظر أسد الغابة جـ 1 ص 49 – 51.
(1) انظر خلاصة تذهيب الكمال ص 180 ، وميزان الاعتدال جـ 2 ص 68.
(4) تدريب الراوي ص 65، ومعرفة علوم الحديث ص 19 – 20.
(1) مقدمة ابن تيميه في أصول التفسير ص 15.
(1) انظر مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير ص 28 – 29 ، وفواتح الرحموت جـ 2 ص 188 ، والاتقان جـ 2 ص 179.
(1) انظر فجر الإسلام ص 252 ، ومنهج الفرقان جـ 2 ص 20.
(2) وما سبق من أن مجاهد بن جبر كتب التفسير كله عن ابن عباس ، وما يأتي بعد من أن سعيد بن جبير كتب تفسير القرآن ، لا يخرج بالتفسير في هذه المرحلة عن طابع التلقي والرواية ، لأن هذا عمل فردي لا يؤثر على الطابع العام.